[ ص: 544 ] بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة التكوير
وهي مكية بإجماع من المتأولين.
قوله عز وجل:
إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت
هذه كلها
أوصاف يوم القيامة ، و"تكوير الشمس" هو أن تدار ويذهب بها إلى حيث شاء الله، كما يدار كور العمامة، وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات، فمنهم من قال: ذهب نورها، ومنهم من قال: رمي بها، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خيثم ، وغير ذلك مما هو أشياء تابعة لتكويرها. و"انكدار النجوم" هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها، ومنه قول الراجز :
أبصر خربان فلاة فانكدر .. تقضي البازي إذا البازي كسر
[ ص: 545 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: "انكدرت": تغيرت، من قولهم: ماء كدر، أي: متغير اللون. و"تسيير الجبال" هو قبل نسفها، وإنما ذلك في صدر هول القيامة. و: "العشار" جمع عشراء، وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند
العرب، وتهممهم بها عظيم للرغبة في نسلها، فإنها تعطل عند أشد الأهوال، وقرأ
مضر عن
nindex.php?page=showalam&ids=15507اليزيدي : "عطلت" بتخفيف الطاء.
و"حشر الوحوش" جمعها، واختلف الناس في هذا الجمع، ما هو؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: حشرت بالموت; لأنها لا تبعث القيامة، ولا يحضر القيامة غير الثقلين، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة وجماعة: حشرت للجمع يوم القيامة، ويقتص للجماء من القرناء، فجعلوا ألفاظ هذا الحديث حقيقة لا مجازا، مثالا في العدل، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب : حشرت في الدنيا في أول هول يوم القيامة، فإنها تفر في الأرض، وتجتمع إلى بني
آدم تأنيسا بهم. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: "حشرت" بشد الشين على المبالغة.
و "تسجير البحار" قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك : معناه: فرغت من مائها وذهب حيث شاء الله تعالى، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: يبست، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خيثم : معناه: ملئت وفاضت
[ ص: 546 ] وفجرت من أعاليها، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب :
nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان ،
ووهب ،
nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد : معناه: أضرمت نارا كما يسجر التنور، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : جهنم في البحر الأخضر، ويحتمل أن يكون المعنى: ملكت، وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض بسبب الهول، فتكون اللفظة مأخوذة من "ساجور الكلب"، وقيل: هذه مجاز نار في جهنم تسجر يوم القيامة، وقد تقدم نظير هذه الأقوال منصوصة لأهل العلم في قوله تعالى:
والبحر المسجور ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو "سجرت" بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بشدها، وهي مترجحة بكون البحار جمعا، كما قال تعالى:
كتابا يلقاه منشورا ، وكما قال سبحانه: "صحفا منشرة"، ومثله: "قصر مشيد"، و"بروج مشيدة" لأنها جماعة، وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن
آدم وأحواله عند موته، فالشمس نفسه، والنجوم عيناه وحواسه، والعشار ساقاه، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى.
و"تزويج النفوس" هو تنويعها; لأن الأزواج هي الأنواع، والمعنى: جعل الكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن، وكل شكل مع شكله، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس رضي الله عنهم، وقال: هذا نظير قوله
[ ص: 547 ] تعالى:
وكنتم أزواجا ثلاثة ، وفي الآية -على هذا- حض على دليل الخبر، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=655702 "المرء مع من أحب"، وقال عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=688530 "فلينظر أحدكم من يخالل". وقال الله تعالى:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17131مقاتل بن سليمان : زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي : زوجت الأرواح الأجساد. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم : "زوجت" غير مدغم.
و"الموؤدة" اسم معناه: المثقل عليها، ومنه:"ولا يؤده"، ومنه: "اتئد"، أي توقر واثقل، وعرف هذا الاسم في البنات اللواتي كان قوم من
العرب يدفنونهن أحياء، يحفر الرجل شبه البئر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها، وإذا كانت صغيرة جدا خد لها في الأرض ودفنها، وبعضهم كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال، وبعضهم غيرة وكراهية للبنات وجهالة، وقرأ الجمهور: "الموءودة" بالهمز من "وأد" في حرف
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : "وإذا الماودة"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13869البزي : "المؤودة" بهمزة
[ ص: 548 ] مضمومة على الواو مثل "المعوذة"، وقرأ بعض القراء: "المودة" بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : "المودة" بسكون الواو على وزن "الفعلة"، وقرأ بعض السلف: "المودة" بفتح الواو والدال المشددة، جعل البنت مودة، وقرأ جمهور الناس: "سئلت"، وهذا على وجه التوبيخ
للعرب الفاعلين ذلك; لأنها تسأل ليصير الأمر إلى سؤال الفاعلين، ويحتمل أن تكون: مسؤولا عنها مطلوبا الجواب منهم، كما قال تعالى:
إن العهد كان مسؤولا ، وكما سئل التراث والحقوق. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ،
nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=11870وأبو الضحى ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ، وجماعة كبيرة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=14355والربيع بن خيثم "سألت"، ثم اختلف هؤلاء، فقرأ أكثرهم: "قتلت" بفتح اللام وسكون التاء "الثانية"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر : "قتلت" بشد التاء على المبالغة، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وجابر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11870وأبو الضحى ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد : "قتلت" بسكون اللام وضم التاء "الثانية"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13723الأعرج : "سيلت" بكسر السين وفتح اللام دون همز. واستدل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما بهذه الآية في أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله تعالى قد انتصر لهم من ظلمهم .
و"الصحف المنشورة" قيل: هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل امرئ كتابه، وقيل: هي الصحف التي تتطاير بالأيمان والشمائل للجزاء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=11962وأبو جعفر ،
وشيبة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن nindex.php?page=showalam&ids=12004وأبو رجاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة : "نشرت" بتخفيف الشين المكسورة، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : "نشرت" بشد الشين على المبالغة. و"الكشط": التقشير، وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ، وكشط السماء هو طيها كطي السجل، وفي مصحف
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : "قشطت" بالقاف، وهما بمعنى واحد.
و"سعرت" معناه: أضرمت نارها، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر ،
وحفص عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم : "سعرت" بشد العين، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وأبو بكر عن
[ ص: 549 ] nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم : بتخفيفها، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : سعرها غضب الله عز وجل وذنوب بني
آدم.
و"أزلفت" معناه: قربت ليدخلها المؤمنون، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من المفسرين: إلى هذين ما انتهى الحديث، وذلك أن الغرض المقصود بقوله تعالى: "وإذا، وإذا" في جميع ما ذكرنا إما تم بقوله تعالى:
علمت نفس ما أحضرت ، أي: ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم، أو من خير فدخلت به الجنة، و"نفس" هنا اسم جنس، أي: عملت النفوس، ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه.