قوله عز وجل:
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
قوله تعالى: "فلا أقسم"، إما أم تكون "لا" زائدة، وإما أن يكون رد القول
قريش في تكذيبهم بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم: إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك، ثم
أقسم الله تعالى بالخنس الجوار الكنس ، فقال جمهور المفسرين: إن ذلك الدراري السبعة، الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشترى. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المراد الخمسة دون الشمس والقمر، وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر فيما ترى العين، وهو جوار في السماء، وأثبت
nindex.php?page=showalam&ids=17379يعقوب الياء في "الجواري" في الوقف، وحذفها الباقون، وهي تكنس في أبراجها، أي تستتر، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة : المراد النجوم كلها، لأنها تخنس وتكنس بالنهار حين تختفي، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد ، وجماعة من المفسرين: المراد "بالخنس الجوار الكنس" بقر الوحش لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها، وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك : هي الظباء، وذهب هؤلاء في "الخنس" إلى أنه من صفة الأنوف لأنها يلزمها الخنس، وكذلك هي بقر الوحش أيضا، ومن ذلك قول الشاعر:
[ ص: 550 ] سوى باز بيض أو غزال صريمة ... أغن من الخنس المناخر توأم
"وعسعس الليل" في اللغة إذا كان غير مستحكم الإظلام، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن: ذلك في وقت إقباله، وبه وقع القسم، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة : ذلك عند إدباره وبه وقع القسم، ويرجح هذا قوله تعالى بعد: "والصبح إذا تنفس"، فكأنهما حالان متصلان، ويشهد له قول
علقمة بن قرط: حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15153أبو العباس المبرد : أقسم تعالى بإقباله وإدباره معا، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل: يقال: عسعس الليل وسعسع إذا أقبل وأدبر.
و"تنفس الصبح": استطار واتسع ضوءه، وقال
علوان بن قيس: وليل دجى تنفس فجره لهم بعد أن خالوه لن يتنفسا
والضمير في "إنه" للقرآن، و"الرسول الكريم" في قول جمهور الناس:
جبريل عليه السلام، وقال آخرون: هو
محمد عليه الصلاة والسلام في الآيات كلها، والقول الأول
[ ص: 551 ] أصح، و"كريم" في هذه الآية يقتضي رفع المذام، ثم وصفه تعالى بقوة منحه الله إياها.
واختلف الناس في تعلق قوله تعالى:
عند ذي العرش ، فذهب بعض المتأولين إلى تعلقه بقوله سبحانه: "ذي قوة"، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله:
ذي قوة وتعلق الظرف بقوله: "مكين"، ومعناه: له مكانة ورفعة.
وقوله تعالى:
مطاع ثم أمين معناه: مقبول القول مصدق بقوله مؤتمن على ما يرسل به ويؤديه من وحي وامتثال أمر، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر : "ثم" بضم الثاء، وذكر الله تعالى نفسه بالإضافة إلى عرشه تنبيها على عظم ملكوته.
وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى:
وما صاحبكم يراد به
محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في "رآه"
جبريل عليه السلام، وهذه الرؤية التي كانت بعد أمر
غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض، وقيل: هذه الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء، وسمى ذلك الموضع أفقا مجازا، وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثانية
بالمدينة، وليست هذه. ووصف تعالى الأفق بالمبين لأنه كان في الشرق من حيث تطلع الشمس، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة ، وأيضا فكل أفق فهو في غاية البيان.
وقوله تعالى:
وما هو على الغيب بضنين بالضاد بمعنى: بخيل، أي: يشح به، ولا يبلغ ما قيل له ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه. وبالضاد هي في خطوط المصاحف كلها فيما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر ،
nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان بن عفان ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=12004وأبي رجاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج ،
nindex.php?page=showalam&ids=11962وأبي جعفر ،
وشيبة ، وجماعة وافرة. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16414وابن الزبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم وابن جندب ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ، وغيرهم: "بظنين" بالظاء، أي بمتهم، وهذا في المعنى نظير وصفه بأمين، وقيل: معناه: بضعيف القوة، من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء، ورجح
nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد قراءة الظاء مشالة لأن
[ ص: 552 ] قريشا لم تبخل
محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإنما كذبته فقيل ما هو بمتهم.
ثم نفى تعالى عن القرآن أن يكون كلام شيطان، على ما قالت
قريش: إن
محمدا كاهن، و"رجيم" معناه مبعد مرجوم بالكواكب واللعنة وغير ذلك.
وقوله تعالى: "فأين تذهبون" توقيف وتقرير، على معنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق، و"الذكر" هنا مصدر بمعنى التذكرة. ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفا وتنبيها وذكرا لتكسبهم
أفعال الاستقامة . ثم بين تعالى أن تكسب المرء على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء، وروي أنه نزل قوله تعالى:
لمن شاء منكم أن يستقيم فقال
أبو جهل: هذا أمر قد وكل إلينا، فإن شئنا استقمنا وإن لم نشأ لم نستقم، فنزلت:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله وفي الحديث:
"يقول الله: يا ابن آدم، تريد وأريد، فتتعب فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد".
كمل تفسير سورة [التكوير] والحمد لله رب العالمين