قوله عز وجل:
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم
العامل في "إذ" قوله: "عفا".
وقرأ جمهور الناس: " تصعدون" بضم التاء وكسر العين من أصعد ومعناه: ذهب في الأرض، وفي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب: "إذ تصعدون في الوادي" .
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
والصعيد، وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه: دخل في الصعيد، كما أن أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك.
والعرب تقول: أصعدنا من
مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفرا بعيدا وأنشد
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة لحادي الإبل:
[ ص: 389 ] قد كنت تبكين على الإصعاد فالآن صرحت وصاح الحادي
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن nindex.php?page=showalam&ids=12067وأبو عبد الرحمن واليزيدي nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة: "إذ تصعدون" بفتح التاء والعين، من صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل، والقراءة الأولى أكثر.
وقوله تعالى: "ولا تلوون" مبالغة في صفة الانهزام، وهو كما قال
دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟ وهذا أشد من قول
امرئ القيس: . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
وقرأ
ابن محيصن nindex.php?page=showalam&ids=16456وابن كثير في رواية
شبل: "إذ يصعدون ولا يلوون" بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء: "ولا تلؤون" بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم: "ولا تلون" بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=11948أبي بكر: "تلوون" بضم التاء، من ألوى وهي لغة، وقرأ
حميد بن قيس: "على
أحد" بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعني بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي:
"إلي عباد الله"، والناس يفرون.
وفي قوله تعالى:
في أخراكم مدح للنبي عليه السلام، فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس، ومنه قول
الزبير بن باطا: "ما فعل مقدمتنا إذ حملنا
[ ص: 390 ] وحاميتنا إذ فررنا"، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=119سلمة بن الأكوع: "كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى: "فأثابكم" معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تحية بينهم ضرب وجيع
وكقول الآخر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة: بمعنى مدحرجة.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: "غما بغم"، فقال قوم: المعنى: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
فالباء على هذا باء السبب.
[ ص: 391 ] وقال قوم: المعنى أثابكم غما بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم
بدر.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
فالباء على هذا باء معادلة، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبو سفيان: يوم بيوم
بدر والحرب سجال. وقالت جماعة كثيرة من المتأولين: المعنى أثابكم غما على غم، أو غما مع غم، وهذه باء الجر المجرد.
واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد: الغم الأول: أن سمعوا: ألا إن
محمدا قد قتل، والثاني: القتل والجراح الواقعة فيهم. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة أيضا بعكس هذا الترتيب، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد أيضا وغيرهما: بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم الثاني هو إشراف
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان على النبي ومن كان معه. ذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في صفح الجبل فمشى نحوهم، فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم، فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم nindex.php?page=showalam&ids=12026أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولا، وأهمهم أمر nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان، فقال رسول الله عليه السلام: "ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد" ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم.
واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة
أحد اختلافا كثيرا، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع،
nindex.php?page=hadith&LINKID=907994قال nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك: أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر. وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه الصلاة والسلام في عرعرة الجبل،
ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير،
ولعمر معه مراجعة محفوظة، اختصرتها إذ لا تخص الآية.
[ ص: 392 ] وقوله تعالى:
لكيلا تحزنوا على ما فاتكم معناه: من الغنيمة، ( وما أصابكم ) معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
واللام من قوله: "لكيلا" متعلقة بـ "أثابكم"، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه. وفي قوله تعالى:
والله خبير بما تعملون توعد.
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين فغشي أهل الإخلاص، وذلك
أنه لما ارتحل nindex.php?page=showalam&ids=12026أبو سفيان من موضع الحرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه: "اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلىمكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا" ووطنهم على القتال. فمضى nindex.php?page=showalam&ids=8علي ثم رجع فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان يؤم
المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنياوية. قال
nindex.php?page=showalam&ids=86أبو طلحة: لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير بن العوام: لقد رفعت رأسي يوم
أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت حجفته. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود: نعسنا يوم
أحد والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان.
وقرأ جمهور الناس "أمنة" بفتح الميم، وقرأ
ابن محيصن nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي "أمنة" بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: "نعاسا" بدل. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير [ ص: 393 ] nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر: "يغشى" بالياء حملا على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى الضمير البدل، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي: "تغشى" بالتاء حملا على لفظ الأمنة بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه. والواو في قوله تعالى:
وطائفة قد أهمتهم هي واو الحال، كما تقول: جئت وزيد قائم. قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه وغيره، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: وجائز أن يكون خبر قوله: "وطائفة" قوله: "يظنون" ويكون "قد أهمتهم" صفة للطائفة.
وقوله تعالى:
قد أهمتهم أنفسهم ذهب أكثر المفسرين
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة nindex.php?page=showalam&ids=14355والربيع nindex.php?page=showalam&ids=12563وابن إسحاق وغيرهم إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى: أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول
العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم. وذكر بعض المفسرين أن اللفظة من قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
والمعنى: أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين، وهذا قول من قال: قد قتل
محمد فلنرجع إلى ديننا الأول، ونحو هذا من الأقوال.