قوله عز وجل:
فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون .
أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلا للاستشارة في الأمور.
والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله:
وأمرهم شورى بينهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=933229 "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار" وقال عليه
[ ص: 405 ] السلام
nindex.php?page=hadith&LINKID=665117 "المستشار مؤتمن". وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن: "ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله". وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. والشورى بركة، وقد جعل
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب الخلافة -وهي أعظم النوازل- شورى، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة
بدر: nindex.php?page=hadith&LINKID=653860 "أشيروا علي أيها الناس"، في اليوم الذي تكلم فيه
nindex.php?page=showalam&ids=53المقداد ثم
nindex.php?page=showalam&ids=228سعد بن عبادة. ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة
أحد يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس "وشاورهم في بعض الأمر"، وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم، والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا على الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية.
[ ص: 406 ] وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11867جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد nindex.php?page=showalam&ids=16584وعكرمة "عزمت" بضم التاء، سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزما منه، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى:
لتحكم بين الناس بما أراك الله ونحو قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رميا، إذ كان ذلك متصلا برمي
محمد صلى الله عليه وسلم بالحصباء. وقد قالت
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة: ثم عزم الله لي.
والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد، وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=944599 "قيدها وتوكل".
ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم أي: فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها.
والخذل : هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك، وأصله من خذل الظباء، وبهذا قيل لها: خاذل إذ تركتها أمها، وهذا على النسب أي: ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة.
وقوله تعالى:
فمن ذا الذي ينصركم تقدير جوابه: لا من، والضمير في "بعده" يحتمل العودة على المكتوبة، ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله: "وإن يخذلكم"
/