[ ص: 511 ] قوله عز وجل:
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
"والمحصنات" عطف على المحرمات قبل. والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها. والإحصان تستعمله
العرب في أربعة أشياء. وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل: فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ. ويستعملون الإحصان في الحرية، لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنى، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول
هند بنت عتبة للنبي عليه الصلاة والسلام، حين بايعته: "وهل تزني الحرة؟" فالحرية منعة وحفظ. ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=674311 "الإيمان قيد الفتك".
ومنه قول
الهذلي: فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
ومنه قول الشاعر:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام
[ ص: 512 ] ومنه قول
سحيم: . . . .. . . . .. . . ... . . .. .. . كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ومنه قول
أبي حية: رمتني وستر الله بيني وبينها
فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام.
ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها فهي منعة وحفظ.
وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية:
"والمحصنات"، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=12134وأبو قلابة، nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد، nindex.php?page=showalam&ids=17134ومكحول، nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري، nindex.php?page=showalam&ids=44وأبو سعيد الخدري: هن ذوات الأزواج، أي: هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسباء من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد الخدري "أن الآية نزلت بسبب
nindex.php?page=hadith&LINKID=659651أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى [ ص: 513 ] أوطاس، فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة".وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود، nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن بن أبي الحسن، nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب، nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر بن عبد الله، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أيضا: معنى المحصنات: ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود: إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها. ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق.
وقال قوم: المحصنات -في هذه الآية- العفائف، أي: كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك.
إلا ما ملكت أيمانكم قالوا: معناه: بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين. قال بهذا القول
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية nindex.php?page=showalam&ids=16536وعبيدة السلماني، nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس، nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير، nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16536عبيدة عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه.
[ ص: 514 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: المحصنات: العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى.
وأسند
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن
nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: "والمحصنات": هن الحرائر، ويكون
إلا ما ملكت أيمانكم معناه: بنكاح. هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا.
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري أنه قال: كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن، فمنعناهن بقوله تعالى: "والمحصنات"... الآية.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال.
وأسند
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري أن رجلا قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992لسعيد بن جبير: أما رأيت
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس حين سئل عن هذه الآية
والمحصنات من النساء فلم يقل فيها شيئا؟ فقال
سعيد: كان
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لا يعلمها، وأسند أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل. قوله: "والمحصنات" إلى قوله: "حكيما".
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس؟ ولا كيف انتهى
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد إلى هذا القول؟.
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية
والمحصنات من النساء فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات. ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك. وهذا قول حسن، عمم لفظ الإحصان، ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في الموطإ، فإنه قال:
[ ص: 515 ] هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنى، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير، nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع، nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو، nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم، nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر، nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة: "والمحصنات" بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده. وقرأ سائر ما في القرآن: "المحصنات" بكسر الصاد، "ومحصنات" كذلك. وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16588علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى: أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية. وكسر الصاد هو على معنى: أنهن أحصن أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها.
وقرأ
يزيد بن قطيب: "والمحصنات" بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة.
وقرأ جمهور الناس "كتاب الله" وذلك نصب على المصدر المؤكد.
وقرأ
أبو حيوة، ومحمد بن السميفع اليماني "كتب الله عليكم" على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16536عبيدة السلماني وغيره: قوله: "كتاب الله عليكم" إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: "مثنى وثلاث ورباع" وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله: "كتاب الله عليكم"
[ ص: 516 ] إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت
العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى:
وأحل لكم ما وراء ذلكم ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي: المعنى: وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح، وقال نحوه
nindex.php?page=showalam&ids=16536عبيدة السلماني. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء وغيره: المعنى: وأحل لكم ما وراء من حرم من سائر القرابة فهن حلال لكم تزويجهن. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير، nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع، nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو، nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر: "وأحل لكم" بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله: "كتاب الله"، إذ المعنى: كتب الله ذلك كتابا، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي: "وأحل" بضم الهمزة وكسر الحاء، وهذه مناسبة لقوله:
حرمت عليكم .
والوراء في هذه الآية: ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات. فهن وراء أولئك بهذا الوجه، و
أن تبتغوا بأموالكم لفظ يجمع التزوج والشراء، و"أن" في موضع نصب، وعلى قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء.
و"محصنين" معناه: متعففين، أي: تحصنون أنفسكم بذلك "غير مسافحين"، أي: غير زناة، والسفاح: الزنى، وهو مأخوذ من: سفح الماء أي: صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في
[ ص: 571 ] عرس:
"هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر".
واختلف المفسرون في معنى قوله:
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن، nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد، وغيرهم: المعنى: فإذا استمتعتم بالزوجة، ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله،ولفظة "فما" تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر.
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد، nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي، وغيرهم: أن الآية في نكاح المتعة، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب، nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير: "فما استمتعتم به منهن -إلى أجل مسمى- فآتوهن أجورهن"، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لأبي نضرة: "هكذا أنزلها الله عز وجل".
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14152الحكم بن عتيبة أن
nindex.php?page=showalam&ids=8عليا رضي الله عنه قال: "لولا أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي".
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقيل: قول الله تعالى:
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . وقالت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها: نسخها قوله:
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم . ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق والعدة، والميراث. وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين
[ ص: 518 ] وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى ألا ميراث بينهما. ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي كتاب
النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة. وحكى
المهدوي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب أن
نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف. "فريضة" نصب على المصدر في موضع الحال.
واختلف المفسرون في معنى قوله:
ولا جناح عليكم الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض. وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة، وزيادة في الأجر جائز سائغ.
وباقي الآية بين.