قوله عز وجل:
وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، فرقة عصت وصادت، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية "لم تعظون قوما" يريدون العاصية "الله مهلكهم أو معذبهم" على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية، فقالت الناهية" موعظتنا معذرة إلى الله، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وقال أيضا: ما أدري ما فعل بهم. وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن وغيرهما، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي [ ص: 72 ] فيما أسند عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين، فرقة عصت وجاهرت، وفرقة نهت وغيرت واعتزلت، وقالت للعاصية: إن الله يهلكهم ويعذبهم، فقالت أمة من العاصين للناهين -على جهة الاستهزاء-: لم تعظون قوما قد علمتم أن الله مهلكهم أو معذبهم؟.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
والقول الأول أصوب، وتؤيده الضمائر في قوله: "إلى ربكم ولعلهم" فهذه المخاطبة تقتضي مخاطبا ومخاطبا ومكنيا عنه، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر ،
nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : "معذرة" بالرفع، أي: موعظتنا معذرة أي إقامة عذر، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم -في بعض ما روي عنه-
nindex.php?page=showalam&ids=16748وعيسى بن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة بن مصرف : "معذرة" بالنصب، أي: وعظنا معذرة، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12095أبو علي : حجتها أن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه قال: لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
الرجل القائل في هذا المثال معتذر عن نفسه وليس كذلك الناهون من بني إسرائيل، فتأمل. ومعنى "مهلكهم" في الدنيا أو "معذبهم" في الآخرة، وقوله تعالى : "لعلهم يتقون" يقتضي الترجي المحض لأنه من قول آدميين.
والضمير في قوله: "نسوا" للمنهيين، وهو ترك سمي نسيانا إذ أقوى منازل الترك أن ينسى المتروك. و"ما" في قوله: "ما ذكروا به" معنى الذي، ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر، والسوء لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية صيد الحوت. و"الذين ظلموا" هم العاصون، وقوله تعالى : "بعذاب بئيس" معناه: مؤلم موجع شديد.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع وأهل
المدينة -
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر وشيبة وغيرهما- "بيس" بكسر الباء وسكون الياء وكسر السين وتنوينها، وهذا على أنه فعل سمي به، كقوله صلى الله عليه وسلم
"أنهاكم عن قيل وقال" . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن: "بئس" كما تقول: بئس الرجل، وضعفها
[ ص: 73 ] nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو : وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن "بئس" بهمزة بين الباء والسين. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع -فيما يروي عنه
خارجة -: "بيس" بفتح الباء وسكون الياء وكسر السين منونة. وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16871مالك بن دينار عن
نصر بن عاصم "بيس" على مثل جمل وجبل، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن المقري: "بئس" بفتح الباء وهمزة مكسورة وسين منونة على وزن فعل، ومنه قول
عبد الله بن قيس الرقيات:
ليتني ألقى رقية في ... خلوة من غير ما بئس
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12111أبو عمرو الداني : هي قراءة
نصر بن عاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة بن مصرف . وروي عن
نصر "بيس" بياء مكسورة من غير همز، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14431الزهراوي : وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش "بئس" الباء مفتوحة والهمزة مكسورة مشددة والسين مكسورة منونة، وقرأت فرقة: "بئس" التي قبل إلا فتح السين، ذكرها
nindex.php?page=showalam&ids=12111أبو عمرو الداني عما حكى
nindex.php?page=showalam&ids=17379يعقوب، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع -في رواية
أبي قرة عنه-
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم -في رواية
حفص عنه- "بئيس" بياء بعد الهمزة المكسورة والسين المنونة على وزن فعيل. وهذا وصف بالمصدر كقولهم: "عذير الحي" والنذير والنكير، ونحو ذلك، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=13723الأعرج ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ، وأهل
الحجاز، وأبي عبد الرحمن ،
ونصر بن عاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش ، وهي التي رجح
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم ، ومنه قول
ذي الإصبع العدواني: حنقا علي ولا أرى ... لي منهما شرا بئيسا
[ ص: 74 ] وقرأ أهل
مكة "بئيس" كالأول إلا كسر الباء، على وزن فعيل، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم : هما لغتان، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم -في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=11948أبي بكر عنه-: "بيئس" بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة، على وزن فيعل، ومعناه: شديد، ومنه قول
امرئ القيس بن عابس الكندي :
كلاهما كان رئيسا بيئسا ... يضرب في يوم الهياج القونسا
فهي صفة كضيغم وحيدر، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16748عيسى بن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش -بخلاف عنه-: "بيئس" كالتي قبل إلا كسر الهمزة على وزن فيعل، وهذا شاذ لأنه لا يوجد فيعل في الصحيح، وإنما يوجد في المعتل مثل سيد وميت. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14431الزهراوي : روى
نصر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم : "بيس" على مثال "ميت"، وهذا على أنه من البؤس، ولا أصل له في الهمز، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم : زعم
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم أن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش قرأا: "بئيس" الباء مكسورة والهمزة ساكنة والياء مفتوحة على مثال خديم، وضعفها
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر من السبعة: "بئس" بكسر الباء وسكون الهمزة وتنوين السين المكسورة، وقرأت فرقة: "بأس" بفتح الباء وسكون الألف، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12004أبو رجاء : "بائس" على وزن فاعل، وقرأت فرقة: "بيس" بفتح الباء والياء والسين على وزن فعل، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16871مالك بن دينار : "بأس" بفتح الباء والسين وسكون الهمزة على وزن فعل غير مصروف، وقرأت فرقة: "بأس" مصروفا، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم "بيس" ، قال
أبو الفتح: هي قراءة
نصر بن عاصم ، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=14431الزهراوي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير وأهل
مكة "بئس" ويهمز همزا خفيفا.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة.
[ ص: 75 ] وقوله تعالى: "بما كانوا يفسقون" أي لأجل ذلك وعقوبة عليه.
والعتو: الاستعصاء وقلة الطواعية.
وقوله تعالى : "قلنا لهم" يحتمل أن يكون قولا بلفظ من ملك أسمعهم ذلك، فكان أذهب في الإغراب والهوان والإصغار، ويحتمل أن يكون عبارة عن المقدرة المكونة لهم قردة، و"خاسئين" مبعدين، كما
nindex.php?page=hadith&LINKID=651267قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "اخسأ" ، وكما يقال للكلب: اخسأ، فـ "خاسئين" خبر بعد خبر، هذا اختيار
أبي الفتح، وضعف الصفة، وكذلك هو، لأن القصد ليس التشبيه بقردة مبعدات.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويجوز أن يكون "خاسئين" حالا من الضمير في "كونوا"، والصفة أيضا متوجهة مع ضعفها، وروي أن الشباب منهم مسخوا قردة والرجال الكبار مسخوا خنازير، وروي أن مسخهم كان بعد المعصية في صيد الحوت بعامين، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي : إن إهلاكهم كان في زمن داود، وروي أن الناهين قسموا المدينة بينهم وبين العاصين بجدار، فلما أصبحوا ليلة أهلك العاصون، لم يفتح باب مدينة العاصين حتى ارتفع النهار، فاستراب الناهون لذلك، فطلع أحد الناس على السور فرآهم ممسوخين قردة تتواثب، فصاح، فدخلوا عليهم يعرف الرجل قرابته ويعرف القرد أيضا كذلك قرابته، وينضمون إلى قرابتهم فيتحسرون، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : وقال قوم: يجوز أن تكون هذه القردة من نسلهم.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتعلق هؤلاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=690893 "إن أمة من الأمم فقدت، وما أراها إلا الفأرة إذا قرب لها لبن لم تشرب"، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الضب.
[ ص: 76 ] وقصص هذا الأمر أكثر من هذا لكن اختصرته واقتصرت على عيونه.