قوله عز وجل:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم
هذه الآية تتضمن عندي- معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان، والإخبار هو لهم، ولذلك استمر الخطاب بـ ( تريدون ) ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مشيرا إلى دخوله صلى الله عليه وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش، وأنكره
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ ، ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر، فترك النهي عن الاستبقاء، ولذلك بكى صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر حين نزلت هذه الآية، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه، فقال nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق : يا رسول الله هم قرابتك، ولعل الله أن يهديهم بعد إلى الإسلام، ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم، وقال [ ص: 239 ] nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يا رسول الله، بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر، وقال nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة : بل نجعلهم في واد كثير الحطب ثم نضرمه عليهم نارا، وقد كان nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ قال: وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وقد رأى الأسر: لقد كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله عنه ومال إليه، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى
بدر ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر:
فإما منا بعد وإما فداء ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، وغيره
nindex.php?page=hadith&LINKID=684297أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم، ثم خرج فقال: إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر مثل إبراهيم قال: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ومثل عيسى قال: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، ومثلك يا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر مثل نوح قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، ومثل موسى قال: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=665379 "أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق"، وفي هذا الحديث قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه: "فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر ولم يهو ما قلت".
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه حجة على ذكر "الهوى" في الصلاح.
وقرأت فرقة" "ما كان للنبي" معرفا، وقرأ جمهور الناس: "لنبي" ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو [ ص: 240 ] عمرو بن العلاء وحده: "أن تكون" على تأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس: "أن يكون" بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى، وقرأ جمهور الناس والسبعة: "أسرى" ، وقرأ بعض الناس: "أسارى" ورواها
nindex.php?page=showalam&ids=12053المفضل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم ، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبي جعفر .
والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول، وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى، إذا كانت أيضا أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة، فهو فيها بمنزلة المفعول، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان، وجمع أيضا كسلان على كسلى تشبيها بأسرى في جمع أسير، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : وهما شاذان، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : أسارى جمع أسرى، فهو جمع الجمع.
وقرأ جمهور الناس: "يثخن" بسكون الثاء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344ويحيى بن يعمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=17340ويحيى بن وثاب : "يثخن" بفتح الثاء وشد الخاء، ومعناه في الوجهين: يبالغ في القتل، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها.
ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
تريدون عرض الدنيا أي: مالها الذي يعن ويعرض، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال،
والله يريد الآخرة أي: عمل الآخرة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقرأ
ابن جماز "الآخرة" بالخفض على تقدير المضاف، وينظر ذلك لقول الشاعر:
أكل امرئ تحسبين امرءا ... ونار توقد بالليل نارا؟
[ ص: 241 ] على تقدير: وكل نار.
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري وغيره
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم قتلوا وسلمتم، فقالوا: نأخذ المال ويستشهد منا سبعون، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد بسنده أن
جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى:
لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ؟ والذي أقول في هذا: إن العتب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
ما كان لنبي إلى قوله:
عظيم إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم، وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس، وهناك كان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء، وحينئذ قال
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ : الإثخان أحب إلي من استبقاء الرجال، وبذلك جعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجيين من عذاب إن لو نزل، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول
nindex.php?page=showalam&ids=53المقداد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل
عقبة بن أبي معيط: "أسيري يا رسول الله"، وقول
مصعب بن عمير للذي يأسر أخاه: "شد يدك عليه فإن له أما موسرة" إلى غير ذلك من قصصهم، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى
المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في
النضر وعقبة، والمن في
أبي عزة وغيره، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ، فمر
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل، ورأى
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء، ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله عنه، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير، فلم ينزل على شيء من هذا عتب، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء، وذلك معترض بما ذكرته، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة، ولا أقول ذلك، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل
بدر ، وذلك في السرية التي قتل فيها
عمرو بن الحضرمي ، وإنما المبتدع في
بدر استبقاء الرجال لأجل المال، والذي من الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها.
[ ص: 242 ] ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم، فاختاروا المفضول فوقع العتب، ولم يكن تخييرا في مستويين، وهذا كما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل.
و
عزيز حكيم صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم أنه سمع هذا من
العرب، وقد ذكره أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=13674أبو الحسن الأخفش ، وقال:
العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء.
وقوله تعالى:
لولا كتاب من الله سبق الآية، قالت فرقة: الكتاب السابق هو القرآن، والمعنى: لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدقتم لمسكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن أيضا،
nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد : الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل
بدر ما تقدم من ذنوبهم أو تأخر، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس رضي الله عنهما،
nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة ، وغيرهم :الكتاب هو ما قد كان الله قضاه في الأزل من
إحلال الغنائم والفداء لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وكانت في سائر الأمم محرمة. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معينا، وقالت فرقة: الكتاب هو أن الله عز وجل قضى أن لا يعاقب أحدا بذنب أتاه بجهالة، وهذا قول ضعيف تعارضه مواضع من الشريعة، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن
محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أن الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب إلا بعد النهي عنه، ولم يكونوا نهوا بعد، وقالت فرقة: الكتاب السابق هو ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.
وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري إلى دخول هذه المعاني كلها تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى.
[ ص: 243 ] واللام في "لمسكم" جواب لولا، و"كتاب" رفع بالابتداء والخبر محذوف، وهكذا حال الاسم الذي بعد "لولا"، وتقديره عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : لولا كتاب سابق من الله تدارككم، و"ما" من قوله تعالى: "فيما" يراد بها إما الأسرى وإما الفداء، وهي موصولة.
وفي "أخذتم" ضمير عائد عليها، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى العائد، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب "، وفي حديث آخر: " وسعد بن معاذ "، وذلك أن رأيهما كان أن يقتل الأسرى. وقوله تعالى:
فكلوا مما غنمتم الآية، نص على
إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليلها.
قوله:
حلالا طيبا حالان من "ما" في قوله: "مما" ، ويصح أن يكونا من الضمير الذي في "غنمتم" ، ويحتمل أن يكون "حلالا" مفعولا بـ "فكلوا".
واتقوا الله معناه: في التسرع حسب إرادة البشر وشهوته في نازلة أخرى، وجاء قوله:
واتقوا الله اعتراضا فصيحا في أثناء الكلام، لأن قوله:
إن الله غفور رحيم هو متصل بالمعنى بقوله:
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا .