[ ص: 296 ] قوله عز وجل:
أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش : هي زائدة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : هي "أو"، وفتحت تسهيلا، وقرأها قوم: "أو" ساكنة الواو فتجيء بمعنى "بل" وكما يقول القائل: لأضربنك، فيقول المجيب: أو يكفي الله.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله متكلف، وأو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وقرئ: "عهدوا عهدا"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=12004وأبو رجاء : "عوهدوا"، و"عهدا" مصدر، وقيل: مفعول بمعنى أعطوا عهدا، والنبذ: الطرح والإلقاء، ومنه: النبيذ والمنبوذ. والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله:
بل أكثرهم ، لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، و"لا يؤمنون" في هذا التأويل حال من الضمير في "أكثرهم" ، ويحتمل الضمير العود على الفريق، ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل، وهو أذم لهم، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر
محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : "نقضه فريق".
[ ص: 297 ] وقوله تعالى:
ولما جاءهم رسول ، يعني به
محمد صلى الله عليه وسلم، و"ما معهم" هو التوراة و"مصدق" نعت لـ "رسول"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابن أبي عبلة "مصدقا" بالنصب. و"لما" يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها "نبذ" الذي يجيء، و"الكتاب" الذي أوتوه التوراة، و"كتاب الله" مفعول بـ "نبذ"، والمراد القرآن لأن التكذيب به نبذ. وقيل: المراد التوراة لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ.
و
وراء ظهورهم مثل، لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر إليه جملة،
والعرب تقول: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيى علي جوابها
و
كأنهم لا يعلمون تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
وقوله تعالى:
واتبعوا ما تتلو الآية، يعني اليهود ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16327ابن زيد : المراد من كان في عهد
سليمان ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الجميع، و"تتلوا" قال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء : معناه تقرأ من التلاوة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : "تتلوا" تتبع، كما
[ ص: 298 ] تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا، وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون : المعنى ما كانت تتلوا، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك : "الشياطون" بالواو، وقوله:
على ملك سليمان أي على عهد ملك
سليمان ، وقيل: المعنى في ملك
سليمان ، بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : اتبعوا بمعنى فضلوا، و
على ملك سليمان أي على شرعه ونبوته وحاله.
والذي تلته الشياطين قيل: إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه
سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين: إن ذلك كان علم
سليمان ، وقيل: بل كان الذي تلته الشياطين سحرا وتعليمه، فجمعه
سليمان عليه السلام كما تقدم، وقيل: إن
سليمان عليه السلام كان يملي على كاتبه
آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر، ثم نسبت ذلك إلى
سليمان ، وقيل: إن
آصف تواطأ مع شياطين على أن يكتبوا سحرا وينسبوه إلى
سليمان بعد موته، وقيل: إن الجن كتبت ذلك بعد موت
سليمان واختلقته ونسبته إليه، وقيل: إن الجن والإنس حين زال ملك
سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما، فلما رجع
سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز
سليمان الذي به سخرت له الجن والريح؟ هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل، وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر، وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا . وقوله تعالى:
وما كفر سليمان تبرئة من الله تعالى
لسليمان ، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكنها آية
[ ص: 299 ] نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر،
والسحر والعمل به كفر. ويقتل الساحر عند
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك كفرا، ولا يستتاب كالزنديق، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يسأل عن سحره فإن كان كفرا استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك فيمن يعقد الرجال عن النساء: يعاقب ولا يقتل، واختلف في
ساحر أهل الذمة فقيل: يقتل، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : لا يقتل إلا إن قتل بسحره، ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16456وابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو ، بتشديد النون من "لكن"، ونصب الشياطين.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر بتخفيف النون ورفع "الشياطين. قال بعض الكوفيين : التشديد أحب إلي إذا دخلت عليها الواو، لأن المخففة بمنزلة "بل"، و"بل" لا تدخل عليها الواو. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12095أبو علي : ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد، إلا أنها لا تعمل إذا خففت.
وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم
سليمان به، وكل ذلك كان. والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل، و"السحر" مفعول ثان بـ "يعلمون"، وموضع "يعلمون" نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان.
وقوله تعالى:
وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . "ما" عطف على "السحر" فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس، ليكفر من اتبعه، ويؤمن من تركه، أو على قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وغيره: إن الله تعالى
[ ص: 300 ] أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر، أو على القول: إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه،.
وقيل إن "ما" عطف على "ما" في قوله:
ما تتلو . وقيل: "ما" نافية، رد على قوله:
وما كفر سليمان ، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل
جبريل وميكائيل بالسحر فنفى الله ذلك.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك ،
وابن أبزي "الملكين" بكسر اللام. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=396ابن أبزي : هما
داود وسليمان ، وعلى هذا القول أيضا فما نافية، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن هما علجان كانا
ببابل ملكين، فـ "ما" على هذا القول غير نافية، وقرأهما كذلك
nindex.php?page=showalam&ids=11822أبو الأسود الدؤلي وقال: هما
هاروت وماروت فهذا كقول
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن . و
"بابل" لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي؟ فقال قوم: هي
بالعراق وما والاه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود لأهل
الكوفة : أنتم بين
الحيرة وبابل . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : هي من
نصيبين إلى
رأس العين . وقال قوم: هي
بالمغرب وهذا ضعيف وقال قوم: هي
جبل دماوند .
و
هاروت وماروت بدل من "الملكين" على قول من قال: هما ملكان. ومن قرأ "ملكين" بكسر اللام وجعلهما
داود وسليمان ، أو جعل الملكين
جبريل وميكائيل جعل
"هاروت وماروت" بدلا من الشياطين في قوله
ولكن الشياطين وقال: هما شيطانان.
[ ص: 301 ] ويجيء "يعلمون" إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس. ومن قال: كانا علجين قال:
هاروت وماروت بدل من قوله: "الملكين".
وقيل: هما بدل من الناس في قوله:
يعلمون الناس . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري "
هاروت وماروت " بالرفع، ووجهه البدل من "الشياطين" في قوله:
تتلو الشياطين أو من الشياطين الثاني على قراءة من خفف "لكن" ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره: هما "هاروت وماروت". وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني آدم ، وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا
هاروت وماروت ، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة، ففتنا بها، فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا فهي الزهرة، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر يلعنها.
[ ص: 302 ] قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله ضعيف، وبعيد على
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما. وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من
فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله الملائكة على ما كان من
هاروت وماروت فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خيرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما.
[ ص: 303 ] وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا له:
إنما نحن فتنة فلا تكفر . وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض ولا يقطع منه بشيء فلذلك اختصرته.