[ ص: 343 ] قوله عز وجل:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
"وإذ" عطف على "إذ" المتقدمة،
و"البيت" الكعبة، و"مثابة" يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك. قال
nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش : دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد
البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، وقال غيره، هي هاء تأنيث المصدر فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها، وقيل: هو على تأنيث البقعة كما يقال: مقام ومقامة.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش "مثابات" على الجمع، وقال
ورقة بن نوفل في
الكعبة :
مثابا لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الطلائح
و"أمنا" معناه: أن الناس يغيرون ويقتلون حول
مكة وهي آمنة من ذلك، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه، لأن الله تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمنا للناس والطير والوحوش. وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، و
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : "واتخذوا" بكسر الخاء
[ ص: 344 ] على جهة الأمر، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك وغيره: معنى ذلك ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=650387عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي عسى ربه إن طلقكن ، وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال
المهدوي : وقيل: ذلك عطف على قوله: "اذكروا" فهذا أمر لبني إسرائيل. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس : ذلك أمر
لإبراهيم ومتبعيه فهي من الكلمات كأنه قال: ( إني جاعلك للناس إماما واتخذوا ) وذكر
المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر الذي يتضمنه قوله:
جعلنا البيت مثابة ، لأن المعنى ثوبوا. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر : "واتخذوا" بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي
إبراهيم ، وذلك معطوف على قوله: "وإذ جعلنا"، كأنه قال: وإذ اتخذوا، وقيل: هو معطوف على "جعلنا" دون تقدير إذ، فهي جملة واحدة، وعلى تقدير إذ فهي جملتان.
واختلف في
مقام إبراهيم فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة وغيرهما، وخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : إنه
الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان
إسماعيل يناوله إياها في بناء
البيت وغرقت قدماه فيه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس : هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه.
[ ص: 345 ] وقال فريق من العلماء:
المقام :
المسجد الحرام . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن أبي رباح :
المقام :
عرفة والمزدلفة والجمار . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : مقامه: مواقف الحج كلها. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : مقامه: الحرم كله، و"مصلى" موضع صلاة، هذا على قول من قال:
المقام الحجر ، ومن قال بغيره قال: "مصلى" مدعى، على أصل الصلاة.
وقوله تعالى: "وعهدنا"، العهد في اللغة على أقسام هذا منها الوصية بمعنى الأمر، و"أن" في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة فلا موضع لها من الإعراب.
و"طهرا" قيل: معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة فيجيء مثل قوله:
أسس على التقوى . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، وقيل: من الفرث والدم، وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار، وقيل: من الشرك.
وأضاف الله
البيت إلى نفسه تشريفا
للبيت ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك، و"للطائفين" ظاهره أهل الطواف، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء وغيره. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992ابن جبير : معناه للغرباء الطارئين على
مكة .
و"العاكفين" قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992ابن جبير : هم أهل البلد المقيمون، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء : هم المجاورون
بمكة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : المصلون. وقال غيره: المعتكفون.
والعكوف في اللغة، اللزوم للشيء والإقامة عليه، كما قال الشاعر:
...................................... عكف النبيط يلعبون الفنزجا
[ ص: 346 ] فمعناه لملازمي
البيت إرادة وجه الله العظيم.
والركع السجود المصلون، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله، فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث: إما أن يكون في صلاة، أو في طواف، فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة
البيت لا يفارقه.
وقوله تعالى:
وإذ قال إبراهيم الآية، دعا
إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم
بمكة بالأمن ورغد العيش، و"اجعل" لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، و"آمنا" معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات التي تحل بالبلاد، وكانت
مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه ولا نبات، فبارك الله فيما حولها
كالطائف وغيره ونبتت فيها أنواع الثمرات.
وروي أن الله تعالى لما دعاه
إبراهيم أمر
جبريل -صلوات الله عليه- فاقتلع
فلسطين وقيل قطعة من
الأردن ، فطاف بها حول
البيت سبعا وأنزلها
بوج ، فسميت
الطائف بسبب ذلك الطواف.
واختلف في
تحريم مكة متى كان، فقالت فرقة: جعلها الله حراما يوم خلق السموات والأرض، وقالت فرقة: حرمها
إبراهيم .
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضا النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653116اللهم إن إبراهيم حرم [ ص: 347 ] مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام .
ولا تعارض بين الحديثين لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة
آدم ، وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد
إبراهيم لحرمتها، وإظهاره ذلك بعد الدثور.
وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين، بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر
إبراهيم عند تحريمه
المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن
تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى، ومن نافذ قضائه وسابق علمه.
و"من" بدل من قوله: "أهله"، وخص
إبراهيم المؤمنين بدعائه.
وقوله تعالى:
ومن كفر الآية، قال
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب ،
nindex.php?page=showalam&ids=12563وابن إسحاق وغيرهما: هذا القول من الله عز وجل
لإبراهيم . وقرؤوا "فأمتعه" بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء "ثم اضطره" بقطع الألف وضم الراء، وكذلك قرأ السبعة حاشا
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر فإنه قرأ "فأمتعه" بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء "ثم أضطره" بقطع الألف. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17340يحيى بن وثاب "فأمتعه" كما قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر "ثم اضطره" بكسر الهمزة على لغة
قريش في قولهم: لا إخال، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب "فنمتعه" "ثم نضطره" ومن شرط، والجواب في "فأمتعه".
[ ص: 348 ] وموضع "من" رفع على الابتداء والخبر. ويصح أن يكون موضعها نصبا على تقدير: وأرزق من كفر، فلا تكون شرطا. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ، وغيرهما: هذا القول هو من
إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقرؤوا: "فأمتعه" بفتح الهمزة وسكون الميم، "ثم اضطره" بوصل الألف وفتح الراء. وقرئت بالكسر، ويجوز فيها الضم. وقرأ
ابن محيصن : "ثم اطره" بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17346يزيد بن أبي حبيب : "ثم اضطره" بضم الطاء.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأن
إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين.
وقليلا معناه مدة العمر، لأن متاع الدنيا قليل، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال: متاعا قليلا، وإما لزمان كأنه قال: وقتا قليلا، أو زمنا قليلا.
و"المصير" مفعل كموضع من صار يصير، وبيس أصلها بئس، وقد تقدمت في بيسما، وأمتعه معناه: أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلا، لأنه فان منقض.
وأصل المتاع الزاد، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله، قال الشاعر:
وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق
[ ص: 349 ] ومنه تمتيع الزوجات ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره.