قوله عز وجل:
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون
لما ذكر الله تعالى كفار
مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت ورد عليهم قولهم ذكر مؤمني
مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض
الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب هذه الآية، لأن هجرة
المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وقالت فرقة: سبب الآية
أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وهذا ضعيف، لأن أمر
أبي جندل إنما كان والنبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، وقالت فرقة: نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=56عمار nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب nindex.php?page=showalam&ids=211وخباب وأصحابهم الذين أوذوا
بمكة وخرجوا عنها، وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولا وآخرا.
وقرأ الجمهور "لنبوئنهم"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
ونعيم بن ميسرة، nindex.php?page=showalam&ids=14355والربيع بن خثيم، [ ص: 357 ] وأمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لنثوينهم"، وهاتان اللفظتان معناهما التقرير في موضع، فقالت فرقة: "الحسنة" عدة ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة، وإليها كانت الإشارة بقوله: "حسنة"، وقالت فرقة: الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر، وفي قوله: "لنبوئنهم" أو "لنثوينهم" على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة، وهذا على أن "الحسنة" هي الحياة والمثوى، وأن الفعل الظاهر عامل فيها، وقال
أبو الفتح : نصبها على معنى: "نحسن إليهم في ذلك إحسانا"، وجعلت "حسنة" موضع "إحسانا"، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن
آدم ، وتخفى الاستعارة المذكورة على هذا التأويل، وفي هذا القول يدخل ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له: خذ ما وعدك الله في الدنيا ولأجر الآخرة أكبر، ثم يتلو هذه الآية، ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد وكل أمل بلغه المهاجرون، و "أجر الآخرة" هنا إشارة إلى الجنة، والضمير في "يعلمون" عائد إلى كفار
قريش ، وجواب "لو" مقدر محذوف، ومفعول "يعلمون" كذلك، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى:
الذين صبروا من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله، والصبر يجمع: عن الشهوات، وعلى المكاره في الله تعالى، والتوكل بتفاصيل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن، ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلا ويتوكل، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=944599 "قيدها وتوكل"، ومقصر لا نفع في تقصيره، وإنما له ما قدر له.
وقوله تعالى:
وما أرسلنا من قبلك الآية، هذه رد على كفار
قريش الذين
[ ص: 358 ] استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله مخاطبا
لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم إلا رجالا، ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك، و"رجالا" منصوب بـ "أرسلنا"، و"إلا" إيجاب، وقرأ الجمهور: "يوحى" بضم الياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم من طريق
حفص وحده "نوحي" بالنون وكسر الحاء، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة بن مصرف، وأبي عبد الرحمن . ثم قال تعالى: "فسألوا؛ أي: قل لهم فاسألوا، و"أهل الذكر" هنا اليهود والنصارى، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ،
nindex.php?page=showalam&ids=16008وسفيان بن عيينة: المراد من أسلم منهم، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16327وابن زيد : "أهل الذكر": أهل القرآن، وهذان القولان فيهما ضعف; لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر، لأنهم يكذبون هذه الصنائف، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : "أهل الذكر" عام في كل من يعزى إلى علم.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأظهر في هذا كله قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أن يكون أهل الذكر هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وأخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة
محمد صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه، وقد أرسلت
قريش إلى يهود
يثرب يسألونهم ويستندون إليهم.
وقوله تعالى: "بالبينات" متعلق بفعل مضمر تقديره: أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة: إنها متعلقة بـ "أرسلنا" في أول الآية، والتقدير -على هذا-: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، و"الزبر": الكتب المزبورة،
[ ص: 359 ] تقول: "زبرت ودبرت" إذا كتبت، و"الذكر" في هذه الآية القرآن. وقوله: "لتبين" يحتمل أن يريد: لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد: لتبين بتفسيرك المجمل وبشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد .