[ ص: 460 ] قوله عز وجل:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا
"قضى" في هذه الآية هي بمعنى: أمر وألزم وأوجب عليكم، وهكذا قال الناس. وأقول: المعنى: وقضى ربك أمره
ألا تعبدوا إلا إياه ، وليس في هذه الألفاظ إلا أمر بالاقتصار على عبادة الله، فذلك هو المقضي، لا نفس العبادة. و"قضى" في كلام
العرب : أتم المقضي محكما، والمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : "ووصى"، وهي قراءة أصحابه وقراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي، nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير، nindex.php?page=showalam&ids=17188وميمون بن مهران، وكذلك عند
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك: تصحف على قوم "وصى" بـ "قضى" حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف، وإنما القراءة مروية بسند وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11971أبو حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما مثل قول
nindex.php?page=showalam&ids=14676الضحاك، وقال عن
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران: إنه قال: "إن على قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما لنورا، قال الله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي [ ص: 461 ] أوحينا إليك . ثم ضعف
ابن حاتم أن يكون
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال ذلك، وقال: "لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا". والضمير في
تعبدوا لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، وسأل
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له: إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ثلاثا، فقال له الرجل: قضي ذلك علي، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن -وكان فصيحا-: ما قضى الله أي: ما أمر الله، وقرأ هذه الآية، فقال الناس، تكلم
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن في القدر.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحتمل أن تكون "قضى" على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير في "تعبدوا" للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة، لكن على التأويل الأول يكون قوله:
وبالوالدين إحسانا عطفا على "أن" الأولى، أي: أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله:
وبالوالدين إحسانا مقطوعا من الأول; فإنه أخبرهم بقضاء الله تبارك وتعالى، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين
و"إما" شرطية، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع ،
وأبو عمر، nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر : "يبلغن"، وروي عن
ابن ذكوان "يبلغن" بتخفيف النون، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : "يبلغان"، وهي قراءة
أبي عبد الرحمن، nindex.php?page=showalam&ids=17340ويحيى، nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة، nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش ،
والجحدري، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة، وليست بنون تثنية، فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله: أحدهما" بدلا من الضمير في "يبلغان"، وهو بدل مقسم كقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
[ ص: 462 ] ويجوز أن يكون: "أحدهما" فاعلا، وقوله:
أو كلاهما عطف عليه، ويكون ذلك على لغة من قال: "أكلوني البراغيث"، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين،
nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلا في القرآن الكريم.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو: "أف" بكسر الفاء وترك التنوين، وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم -في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=11948أبي بكر -، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج ،
nindex.php?page=showalam&ids=11962وأبو جعفر ،
وشيبة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16748وعيسى: "أف" بالكسر والتنوين، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر : "أف" بفتح الفاء، وقرأ
أبو السمال : "أف" بضم الفاء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : "أف" خفيفة، وهذا كله بناء، إلا أن قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع تعطي التنكير، كما تقول: "إيه". وفيها لغات لم يقرأ بها: "أف" بالرفع والتنوين، على أن
هارون حكاها قراءة وأفا" بالنصب والتنوين، و"أفي" بياء بعد الكسرة، حكاها
nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش الكبير، و"أفا" بألف بعد الفتحة، و"أف" بسكون الفاء المشددة، و"أف" مثل رب، ومن
العرب من يميل "أفا"، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول: "أفاه".
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومعنى اللفظة أنها اسم فعل، كأن الذي يريد أن يقول: أضجر، أو: أتقذر، أو:
[ ص: 463 ] أكره، أو نحو هذا، يعبر إيجازا بهذه اللفظة فتعطي معنى الفعل المذكور، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثلا لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون، فلم ترد هذه اللفظة في نفسها وإنما هي مثال الأعظم منها والأقل، فهذا هو مفهوم الخطاب المسكوت عنه حكمه حكم المذكور.
و"الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ. و"القول الكريم": الجامع للمحاسن، من اللين وجودة المعنى وتضمن البر، وهذا كما تقول: ثوب كريم، تريد أنه جم المحاسن. و "الأف": وسخ الأظفار، فقالت فرقة: إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد في قوله تعالى
فلا تقل لهما أف معناه: إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في حال الصغر، فلا تقذرهما، وتقول: أف.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله:
والآية أعم من هذا القول، وهو داخل في جملة ما تقتضيه. قال
أبو السراج التجيبي: قلت
nindex.php?page=showalam&ids=15990لسعيد بن المسيب : كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله:
وقل لهما قولا كريما ، ما هذا القول الكريم؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ.
وقوله تعالى:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة استعارة، أي: اقطعهما جانب الذل منك، وديث لهما نفسك وخلقك. وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله تعالى:
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، وذلك بحسب عظم الحق هنا. وقرأ الجمهور: "الذل" بضم الذال، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير: "الذل" بكسر الذال، ورويت عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بن أبي النجود، و "الذل" في الدواب
[ ص: 464 ] ضد "الصعوبة"، ومنه: الجمل الذلول، والمعنى يتقارب. وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في حيز ذلة في أقواله وسكناته ونظره، ولا يحد لهما بصره، فإن تلك هي نظرة الغاضب. وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=913713أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبعده الله وأسحقه" قالوا: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له".
وقوله تعالى:
من الرحمة ، "من" هنا لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالا، ويصح أن تكون لابتداء الغاية.
ثم أمر الله تعالى عباده بالترحم على آبائهم، وذكر مننهما عليه في التربية; ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقا لهما، وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ.
وقوله تعالى:
ربكم أعلم بما في نفوسكم أي: من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك، ويجعلون ظاهر برهما رياء. ثم وعد سبحانه وتعالى في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله. واختلفت عبارة الناس في "الأوابين" فقالت فرقة: هم المصلحون، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: هم المسبحون، وقال أيضا: هم المطيعون المحسنون، وقال
ابن المنكدر: هم الذين يصلون المغرب والعشاء، وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال: "تلك صلاة الأوابين". [ ص: 465 ] وقيل غير ذلك من المستغفرين ونحوه. وقال
عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى. وحقيقة اللفظة أنها من: آب يؤوب إذا رجع، وهؤلاء كلهم لهم رجوع إلى طاعة الله تبارك وتعالى، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح. قال
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب : هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وفسر الجمهور "الأوابين" بالراجعين إلى الخير، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992ابن جبير : أراد بقوله: "غفورا للأوابين" الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه، وهو لم يصر عليها بقلبه، ولا علمها الله من نفسه. وقالت فرقة: "خفض الجناح" هو ألا يمتنع من شيء يريدانه.