[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع، إلا السجدة منها، فقالت فرقة: هي مكية، وقالت فرقة: هي مدنية.
قوله عز وجل:
كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا
اختلف الناس في
الحروف التي في أوائل السور على قولين: فقالت فرقة: هي سر الله تبارك وتعالى في القرآن، لا ينبغي أن يعرض له، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور: بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها; فإن
العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالا على كلمة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة، ونذكر الآن ما يختص بهذه السورة.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك : هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله عز وجل، الكاف من "كبير"، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992ابن جبير أيضا: الكاف من "كاف"، وقال أيضا: هي من "كريم".
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه تعالى. قالوا: والهاء من "هاد"، والياء من "علي"، وقيل: من "حكيم"، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس : هي
[ ص: 6 ] من "يأمن لا يجير ولا يجار عليه". قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: والعين من "عزيز"، وقيل: من "عليم"، وقيل: من "عدل"، والصاد من "صادق". وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : بل "كهيعص" بجملته اسم للسورة، وقالت فرقة: بل هي اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: "يا كهيعص اغفر لي".
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى، ويحتمل أن يريد
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء التي تضمنها "كهيعص"، كأنه أراد أن يقول: يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا صادق اغفر لي، فجمع هذا كله باختصار في قوله: "يا كهيعص". وقال
ابن المستنير وغيره: "كهيعص" عبارة عن حروف المعجم، ونسبه
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج إلى أكثر أهل اللغة، أي: هذه الحروف منها ذكر رحمت ربك عبده
زكريا .
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وعلى هذا يتركب قول من يقول: ارتفع "ذكر" بأنه خبر عن "كهيعص"، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون.
وقرأ الجميع: "كاف" بإثبات الألف والفاء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع "الهاء والياء" وبين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال في الذال، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع أيضا بفتح الهاء والياء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن بضم الهاء وفتح الياء، وقد روي عنه ضم الياء، وروي عنه أنه قرأ: "كاف" بضم الفاء، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12111أبو عمرو الداني : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم، وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بكسرها، وقرأت فرقة بإظهار النون من "عيين"، وهي قراءة
حفص عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم ، وهو القياس; إذ هي حروف منفصلة، وقرأ الجميع: "عيين" بإخفاء النون، جعلوها في حكم الاتصال، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من "صاد"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بإدغامه في الذال من قوله: "ذكر"، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر بن القعقاع بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص بعضها من بعض.
[ ص: 7 ] وارتفع قوله: "ذكر" -فيما قالت فرقة- بقوله: "كهيعص"، وقد تقدم وجه ذلك. وقالت فرقة: ارتفع على خبر مبتدإ تقديره: هذا ذكر. وقالت فرقة: ارتفع بالابتداء والخبر مقدر، تقديره: "فيما أوحي إليك ذكر". وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344وابن يعمر : "ذكر رحمة ربك"، بفتح الذال والكاف "المشددة" والراء، على معنى: هذا المتلو ذكر رحمة ربك عبده، ومن قال:"في الكلام تقديم وتأخير" فقد تعسف. وقرأ الجمهور :
"زكرياء" بالمد، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ،
nindex.php?page=showalam&ids=17340ويحيى ،
nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة :
"زكريا" بالقصر، وهما لغتان، وفيه لغات غيرهما.
وقوله تعالى: "نادى" معناه: بالدعاء والرغبة. واختلف في معنى "إخفائه" هذا النداء، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : ذلك لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=18622خير الذكر الخفي ، وقال غيره:
يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الدعاء الذي هو في معنى العفو والمغفرة، لأنه يدل من الإنسان على أنه خير، فإخفاؤه أبعد من الرياء، وأما دعاء
زكريا وطلبه فكان في أمر دنيا وهو طلب الولد فإنما إخفاؤه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره، إن أجيب نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك. ويقال: وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل.
و "وهن" معناه: ضعف، والوهن في الشخص أو الأمر: الضعف. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : "وهن" بكسر الهاء. "واشتعل" مستعارة للشيب من اشتعال النار، على التشبيه به، و "شيبا" نصب على المصدر في قول من رأى "اشتعل" في معنى شاب، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك، بل رآه فعلا آخر، فالأمر عنده كقولهم: وامتلأت غيظا.
قوله:
ولم أكن بدعائك رب شقيا شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده، معناه: قد أحسنت إلي فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك، فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله.
وقوله تعالى:
وإني خفت الموالي الآية، اختلف الناس في المعنى
[ ص: 8 ] الذي من أجله خاف الموالي، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة ،
وأبو صالح : خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة، فأشفق من ذلك، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
يرحم الله أخي زكريا ، ما كان عليه ممن يرث ماله ، وقالت فرقة: إنما كان مواليه مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وفيه أنه لا يجوز أن يسأل
زكريا من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا يؤيد قول النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=75013إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة ، ويوهنه ذكر العاقر، والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=62476إنا معشر الأنبياء لا نورث ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم، فتأمله. والأظهر الأليق
بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة، ألا ترى أنه إنما طلب وليا، ولم يخصص ولدا فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه؟ وقال
أبو صالح وغيره: قوله: "يرثني" يريد المال، وقوله:
ويرث من آل يعقوب يريد العلم والنبوة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : رغب
زكريا في الولد.
و "خفت" من الخوف، هي قراءة الجمهور، وعليها هو هذا التفسير، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه،
nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
وسعيد بن العاصي ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344وابن يعمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16600وعلي بن الحسين ، وغيرهم: "خفت" بفتح الخاء وفتح الفاء وشدها وكسر التاء، وعلى إسناد الفعل إلى "الموالي"، والمعنى -على هذا-: انقطع أوليائي وماتوا، وعلى هذه القراءة فإنما طلب وليا يقول بالدين. و "الموالي": بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب. وقوله:
من ورائي أي: من بعدي في الزمن، فهم
[ ص: 9 ] الوراء على ما بيناه في سورة الكهف، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة في هذه الآية: أي من بين يدي ومن أمامي، وهذا قلة تحرير. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : "من ورائي" بالمد والهمز وفتح الياء، وقرأ أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : "من وراي" بالياء المفتوحة مثل "عصاي"، والباقون همزوا ومدوا وسكنوا الياء.
و "العاقر" من النساء التي لا تلد من غير كبر، وكذلك العاقر من الرجال، ومنه قول
عامر بن الطفيل :
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
و
"زكريا" عليه السلام لما رأى من حاله إنما طلب وليا، ولم يصرح "بالولد" لبعد ذلك عنده بسبب المرأة، ثم وصف الولي بالصفة التي هي قصده، وهو أن يكون وارثا، وقالت فرقة: بل طلب الولد، ثم شرط أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد لكن يخترم فلا يتحصل منه الغرض المقصود.
وقرأ الجمهور : "يرثني ويرث" برفع الفعلين على معنى الصفة للولي، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : "يرثني ويرث" بجزم الفعلين، وهذا على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ليس هو جواب "هب"، إنما تقديره: إن تهبه يرثني، والأول أصوب في المعنى; لأنه طلب وارثا موصوفا، ويضعف الجزم أنه ليس كل موهوب يرث. وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ،
[ ص: 10 ] nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما: "يرثني وارث من آل يعقوب"، قال
أبو الفتح : وهذا معناه التجريد، التقدير: يرثني منه أو به وارث، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : "يرثني ويرث" على التصغير، وقوله تعالى:
من آل يعقوب يريد منهم الحكمة والعلم والنبوة، والميراث في هذا كله استعارة. و "رضي" معناه: مرضي، فهو فعيل بمعنى مفعول.