قوله عز وجل:
إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى
في قوله تعالى:
إن الساعة آتية تحذير ووعيد، أي: اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، و "الساعة" في هذه الآية: القيامة، بلا خلاف.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم : "أكاد أخفيها" بفتح الهمزة، بمعنى،: أظهرها، أي أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر، لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول: "أخفيت الشيء" بمعنى: أظهرته، ومنه قول
امرئ القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
ومنه قوله أيضا:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
[ ص: 85 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=12095أبو علي : المعنى: أزيل خفاءها وهو ما تلف به القربة ونحوها.
وقرأ الجمهور : "أكاد أخفيها" بضم الهمزة، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة: معناه أظهرها، و "أخفيت" من الأضداد.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا قول مختل.
وقالت فرقة: معناه أكاد أخفيها من نفسي، على معنى العبارة عن شدة غموضها على المخلوقين، وقالت فرقة:
إن الساعة آتية أكاد وتم الكلام، بمعنى: أكاد أنفذها لقربها وصحة وقوعها، ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا قول قلق.
وقالت فرقة: "أكاد" زائدة لا دخول لها في المعنى، بل تضمنت الآية
الإخبار بأن الساعة آتية، وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس.
[ ص: 86 ] وقالت فرقة: "أكاد" بمعنى: أريد، فالمعنى: أريد إخفاءها عنكم لتجزى كل نفس بما تسعى، واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ....................
وقد تقدم هذا المعنى.
وقالت فرقة: "أكاد" على بابها، بمعنى أنها لمقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة
العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها، وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس، بالغ قوله تعالى في إعتام وقتها فقال:
أكاد أخفيها حتى لا تظهر البتة، ولكن ذلك لا يقع، ولا بد من ظهورها.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
فهذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين، وهو الأقوى عندي. وروى بعض القائلين بأن المعنى: "أكاد أخفيها من نفسي" ما في القول من القلق، فقالوا: معنى "من نفسي": من تلقائي ومن عندي.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيرا، فتأمله.
واللام في قوله تعالى: "لتجزى" متعلقة بقوله: "آتية"، وهكذا بترتيب الوعيد، و "تسعى" معناه: تكتسب وتجترح. والضمير في قوله تعالى:
فلا يصدنك عنها ، عائد على "الساعة"، يريد: الإيمان بالساعة، فأوقع الضمير عليها، ويحتمل أن يعود على الصلاة، وقالت فرقة: على "لا إله إلا الله".
[ ص: 87 ] قال
القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا متجه، والأولان أبين وجها.
وقوله تعالى: "فتردى" معناه: تهلك، والردى: الهلاك، ومنه قول
دريد بن الصمة :
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا فقلت: أعبد الله ذلكم الردي؟
وهذا الخطاب كله
لموسى عليه السلام ، وكذلك ما بعده، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15426النقاش : الخطاب في قوله:
فلا يصدنك عنها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا بعيد، وفي مصحف
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أكاد أخفيها من نفسي"، وعلى هذه القراءة تركب ذلك القول المتقدم.
وقوله تعالى:
وما تلك بيمينك يا موسى تقديره ومضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يورد عليها، وإلا فقد علم الله تعالى ما هي في الأزل. وقوله: "بيمينك" من صلة "تلك"، وهذا نظير قول الشاعر:
عدس! ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق
قال
ابن الجوهري : وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على
موسى إضافة
[ ص: 88 ] العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: "ألقها" ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تنضاف إليه.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو -بخلاف عنه - "عصايي" بكسر الياء مثل غلامي، وقرأت فرقة: "عصى"، وهي لغة
هذيل ، ومنه قول
أبي ذؤيب :
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ..............
وقرأ الجمهور : "عصاي" بفتح الياء، وكذلك
ابن أبي إسحاق قرأ: "عصاي" بياء ساكنة.
ثم ذكر
موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك. وقرأ الجمهور : "وأهش" بضم الهاء والشين المنقوطة، ومعناه: أخبط بها الشجر حتى ينتشر الورق للغنم، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي : "وأهش" بكسر الهاء، والمعنى كالذي تقدم، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما: "وأهس" بضم الهاء والسين غير المنقوطة، ومعناه: أزجرها وأخوف، وقرأت فرقة: "على غنمي" بالجر، وقرأت فرقة:
[ ص: 89 ] "على غنمي" فأوقعوا الفعل على الغنم، وقرأت فرقة: "غنمي" بسكون النون، ولا أعرف لها وجها، وقوله: "أخرى" - فوحد مع تقدم الجمع - وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه، فإن ذلك يجرى مجرى الواحدة المؤنثة، كقوله:
الأسماء الحسنى ، وكقوله:
يا جبال أوبي معه ، وقد مر القول في هذا المعنى غير مرة.
وعصا
موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصي الأنبياء الذي كان عند
شعيب عليه السلام حين اتفقا على الرعية، وكانت عصا
آدم عليه السلام هبط بها من الجنة، وكانت من العين الذي في ورق الريحان، وهو الجسم المستطيل في وسطها، وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى.