يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون يسألونك عن الساعة استئناف مسوق لبيان بعض أحكام ضلالهم وطغيانهم ; أي : عن القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة ، وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة ، أو لسرعة ما فيها من الحساب ، أو لأنها ساعة عند الله تعالى مع طولها في نفسها .
قيل : إن قوما من اليهود قالوا : يا
محمد ; أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا ، فإنا نعلم متى هي ، وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها . وقيل : السائلون
قريش .
وقوله تعالى :
أيان مرساها بفتح الهمزة ، وقد قرئ بكسرها ، وهو ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام ، ويليه المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف " متى " حيث يليها كلاهما ، قيل : اشتقاقه من أي فعلان منه ; لأن معناه : أي : وقت ، وهو من أويت إلى الشيء ; لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه .
ومحله الرفع على أنه خبر مقدم ، ومرساها مبتدأ مؤخر ; أي : متى إرساؤها ; أي : إثباتها وتقريرها ، فإنه مصدر ميمي من أرساه : إذا أثبته وأقره ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشيء الثقيل ، كما في قوله تعالى :
والجبال أرساها ، ومنه : مرساة السفن .
ومحل الجملة ; قيل : الجر على البدلية من الساعة ، والتحقيق أن محلها النصب بنزع الخافض ; لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط ، كأنه قيل :
يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، وفي تعليق السؤال بنفس الساعة أولا ، وبوقت وقوعها ثانيا ، تنبيه على أن المقصد الأصلي من السؤال نفسها ، باعتبار حلولها في وقتها المعين ، لا وقتها باعتبار كونه محلا لها ، وقد سلك هذا المسلك في الجواب الملقن أيضا ، حيث أضيف العلم بالمطلوب بالسؤال إلى ضميرها ، فأخبر باختصاصه به عز وجل .
وحيث قيل :
قل إنما علمها ; أي : علمها بالاعتبار المذكور .
عند ربي ولم يقل : إنما علم وقت إرسائها ، ومن لم يتنبه لهذه النكتة حمل
[ ص: 301 ] النظم الكريم على حذف المضاف ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ; للإيذان بأن توفيقه صلى الله عليه وسلم للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد ، ومعنى كونه عنده تعالى خاصة : أنه تعالى قد استأثر به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ، أو نبي مرسل .
وقوله تعالى :
لا يجليها لوقتها إلا هو بيان لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها ، وإقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار من جهته تعالى ، أو من جهة غيره لاقتضاء الحكمة التشريعية إياه ، فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك .
والمعنى : لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألونني عنه ، إلا هو بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين ، فيتوسط في إظهاره لهم ، لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها قبل مجيئه كما هو المسؤول ، بل بأن يقيمها فيشاهدوها عيانا ، كما يفصح عنه التجلية المنبئة عن الكشف التام المزيل للإبهام بالكلية .
وقوله تعالى :
لوقتها ; أي : في وقتها ، قيد للتجلية بعد ورود الاستثناء عليها لا قبله ، كأنه قيل : لا يجليها إلا هو في وقتها ، إلا أنه قدم على الاستثناء للتنبيه من أول الأمر على أن تجليتها ليست بطريق الإخبار بوقتها ، بل بإظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه .
وقوله تعالى :
ثقلت في السماوات والأرض استئناف كما قبله ، مقرر لمضمون ما قبله ; أي : كبرت وشقت على أهلهما من الملائكة والثقلين ، كل منهم أهمه خفاؤها وخروجها عن دائرة العقول .
وقيل : عظمت عليهم ، حيث يشفقون منها ، ويخافون شدائدها وأهوالها . وقيل : ثقلت فيهما ; إذ لا يطيقها منهما ومما فيهما شيء أصلا .
والأول هو الأنسب بما قبله وبما بعده من قوله تعالى :
لا تأتيكم إلا بغتة فإنه استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، فلا بد من اعتبار الثقل من حيث الخفاء ; أي : لا تأتيكم إلا فجأة على غفلة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "
إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه .
يسألونك كأنك حفي عنها استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; بناء على زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالمسؤول عنه ، أو أن العلم بذلك من مواجب الرسالة ، إثر بيان خطئهم في أصل السؤال بإعلام شأن المسؤول عنه .
والجملة التشبيهية في محل النصب على أنها حال من الكاف ، جيء بها بيانا لما يدعوهم إلى السؤال على زعمهم ، وإشعارا بخطئهم في ذلك ; أي : يسألونك مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي عنها ; أي : مبالغ في العلم بها ، فعيل من حفي وحقيقته ، كأنك مبالغ في السؤال عنها ، فإن ذلك في حكم المبالغة في العلم بها ، لما أن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه ، استحكم علمه به .
ومبنى التركيب على المبالغة والاستقصاء ، ومنه إحفاء الشارب واحتفاء البقل ; أي : استئصاله ، والإحفاء في المسألة ; أي : الإلحاف فيها .
وقيل : " عن " متعلقة بيسألونك ، وقوله تعالى : "
كأنك حفي " معترض ، وصلة حفي محذوفة ; أي : حفي بها ، وقد قرئ كذلك .
وقيل : هو من الحفاوة بمعنى : البر والشفقة ، فإن قريشا قالوا له صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فقل لنا : متى الساعة ، والمعنى : يسألونك كأنك تتحفى بهم ، فتخصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة ، وتزوي أمرها عن غيرهم ; ففيه تخطئة لهم من جهتين . وقيل : هو من حفي بالشيء بمعنى : فرح به ، والمعنى : كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه مع أنك كاره له ، لما أنه تعرض لحرم الغيب الذي استأثر الله عز وجل بعلمه .
قل إنما علمها عند الله أمر صلى الله عليه وسلم بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم ، وتقريرا له ، وإشعارا بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن
[ ص: 302 ] استتباعها لصفات الكمال ، التي من جملتها العلم .
وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى :
ولكن أكثر الناس لا يعلمون ; أي : لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى ، فبعضهم ينكرونها رأسا فلا يعلمون شيئا مما ذكر قطعا ، وبعضهم يعلمون أنها واقعة البتة ، ويزعمون أنك واقف على وقت وقوعها فيسألونك عنه جهلا ، وبعضهم يدعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالة ، فيتخذون السؤال عنه ذريعة إلى القدح في رسالتك ، والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحال من المؤمنين ، وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحان فهم منتظمون في سلك الجاهلين ، حيث لم يعملوا بعلمهم .