عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين عفا الله عنك صريح في أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه - صلى الله عليه وسلم - ما وقع منه عند استئذان المتخلفين في التخلف، معتذرين بعدم الاستطاعة، وإذنه اعتمادا على أيمانهم ومواثيقهم لخلوها عن المزاحم من ترك الأولى والأفضل، الذي هو التأني والتوقف إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال.
وقوله عز وجل:
لم أذنت لهم أي: لأي سبب أذنت لهم في التخلف حين اعتلوا بعللهم، بيان لما أشير إليه بالعفو من ترك الأولى، وإشارة إلى أنه ينبغي أن تكون أموره - صلى الله عليه وسلم - منوطة بأسباب قوية موجبة لها، أو مصححة، وأن ما أبرزوه في معرض التعلل والاعتذار مشفوعا بالأيمان كان بمعزل من كونه سببا للإذن قبل ظهور صدقه، وكلتا اللامين متعلقة بالإذن لاختلافهما في المعنى، فإن الأولى للتعليل، والثانية للتبليغ، والضمير المجرور لجميع المستأذنين، وتوجه الإنكار إلى الإذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة بعضهم، كما ينبئ عنه قوله سبحانه:
حتى يتبين لك الذين صدقوا أي: فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة من جهة المال، أو من جهة البدن، أو من جهتهما معا حسبما عن لهم هناك
وتعلم الكاذبين في ذلك، فتعامل كلا من الفريقين بما يستحقه، وهو بيان لذلك الأولى الأفضل، وتخصيص له - صلى الله عليه وسلم – عليه، فإن كلمة (حتى) - سواء كانت بمعنى اللام أو بمعنى إلى - لا يمكن تعلقها بقوله تعالى:
لم أذنت لاستلزامه أن يكون إذنه - صلى الله عليه وسلم - لهم معللا أو مغيا بالتبين والعلم، ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية، وذلك بين الفساد بل بما يدل عليه ذلك، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم؟ وهلا تأنيت حتى ينجلي الأمر؟ كما هو قضية الحزم.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة، nindex.php?page=showalam&ids=16724وعمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله تعالى كما تسمعون، وتغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام - للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين، وأن ما صدر من الآخرين
[ ص: 69 ] وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص - لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة، ناشئ عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين، وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق، والكذب احتمال عقلي، فظهور صدقه إنما هو تبين ذلك المدلول وانقطاع احتمال نقيضه بعدما كان محتملا له احتمالا عقليا، وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له، بل هو نقيض لمدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا، وإسناده إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم - لا إلى المعلومين ببناء الفعل للمفعول مع إسناد التبين إلى الأولين - لما أن المقصود ههنا علمه - صلى الله عليه وسلم - بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين، حيث لا مؤاخذة عليهم، ومن لم ينتبه لهذا قال: حتى يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه.
وإسناد التبين إلى الأولين وتعليق العلم بالآخرين - مع أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه - لما أن المقصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بوصفيهما بذاتيهما، أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما.
هذا، وفي تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه - صلى الله عليه وسلم - وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولي الألباب.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف، بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو، ولقد أخطأ وأساء الأدب - وبئسما فعل فيما قال وكتب - من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه: أخطأت وبئسما فعلت، هب أنه كناية أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب، والتخفيف في العتاب، وهب أن العفو مستلزم للخطأ، فهل هو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة (بئسما) المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها.
ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عز وجل:
لو خرجوا ... إلخ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى:
ولكن كره الله انبعاثهم ... الآية.
نعم، كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير، ويفتضحوا على رءوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم، بأنهم غروه - صلى الله عليه وسلم - وأرضوه بالأكاذيب، على أنه لم يهنأ لهم عيش، ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان.