تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين تلك إشارة إلى ما قص من قصة
نوح - عليه الصلاة والسلام - إما لكونها بتقضيها في حكم البعيد، أو للدلالة على بعد منزلتها، وهي مبتدأ خبره
من أنباء الغيب أي: من جنسها، أي: ليست من قبيل سائر الأنباء، بل هي نسيج وحدها منفردة عما عداها، أو بعضها
نوحيها إليك خبر ثان، والضمير لها أي موحاة إليك، أو هو الخبر و(من أنباء) متعلق به فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة، أو حال من (أنباء الغيب) أي: موحاة إليك
ما كنت تعلمها أنت ولا قومك خبر آخر، أي: مجهولة عندك وعند قومك
من قبل هذا أي: من قبل إيحائنا إليك وإخبارك بها، أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي، أو من قبل هذا الوقت، أو حال من الهاء في (نوحيها) أو الكاف في (إليك) أي: جاهلا أنت وقومك بها، وفي ذكر جهلهم تنبيه على أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يتعلمه إذ لم يخالط غيرهم، وأنهم - مع كثرتهم - لما لم يعلموه فكيف بواحد منهم؟
فاصبر متفرع على الإيحاء، أو العلم المستفاد منه المدلول عليه بقوله: "ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" أي: وإذ قد أوحيناها إليك، أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك، كما صبر نوح - على ما سمعته - من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة، وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله تعالى:
"فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك" ... إلخ،
إن العاقبة بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة
للمتقين كما شاهدته في
نوح - عليه الصلاة والسلام – وقومه، ولك فيه أسوة حسنة، فهي
[ ص: 216 ] تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليل للأمر بالصبر، فإن كون العاقبة الحميدة للمتقين - وهو في أقصى درجات التقوى والمؤمنون كلهم متقون - مما يسليه - صلى الله عليه وسلم - ويهون عليه الخطوب، ويذهب عنه ما عسى يعتريه من ضيق صدره، وهذا على تقدير أن يراد بالتقوى الدرجة الأولى منه، أعني التوقي من العذاب المخلد بالتبرؤ من الشرك، وعليه قوله تعالى:
وألزمهم كلمة التقوى ويجوز أن يراد الدرجة الثالثة منه، وهي أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق، ويتبتل إليه بشراشره، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى:
اتقوا الله حق تقاته فإن التقوى بهذا المعنى منطو على الصبر المذكور، فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين.