وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا وكذلك أي: وكما أنمناهم وبعثناهم لما مر من ازديادهم في مراتب اليقين.
أعثرنا أي: أطلعنا الناس
عليهم ليعلموا أي: الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة.
أن وعد الله أي: وعده بالبعث، أو موعوده الذي هو البعث، أو أن كل وعده، أو كل موعوده، فيدخل فيه وعده بالبعث، أو البعث الموعود دخولا أوليا.
حق صادق لا خلف فيه، أو ثابت لا مرد له; لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت، ثم يبعث.
وأن الساعة أي: القيامة التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
لا ريب فيها لا شك في قيامها، فإن من شاهد أنه جل وعلا توفى نفوسهم، وأمسكها ثلثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت، ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبة شك في أن وعده تعالى حق، وأنه يبعث من في القبور، فيرد إليهم
[ ص: 215 ] أرواحهم، فيحاسبهم، ويجزيهم بحسب أعمالهم.
إذ يتنازعون ظرف لقوله "أعثرنا" قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها لا لقوله: "ليعلموا" كما قيل لدلالته على أن التنازع يحدث بعد الإعثار، وليس كذلك، أي: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون.
بينهم أمرهم ليرتفع الخلاف ويتبين الحق. قيل: المتنازع فيه أمر دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث، فمن مقر له، وجاحد به، وقائل يقول: ببعث الأرواح دون الأجساد، وآخر يقول: ببعثهما معا. قيل: كان ملك المدينة حينئذ رجلا صالحا مؤمنا، وقد اختلف أهل مملكته في البعث حسبما فصل ، فدخل الملك بيته، وأغلق بابه، ولبس مسحا، وجلس على رماد، وسأل ربه أن يظهر الحق، فألقى الله عز وجل في نفس رجل من رعيانهم، فهدم ما سد به دقيانوس باب الكهف، ليتخذه حظيرة لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى، فجرى بينهم من التقاول ما جرى. روي أن المبعوث لما دخل المدينة أخرج الدرهم ليشتري به الطعام، وكان على ضرب
دقيانوس ، فاتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا بأن فتية فروا بدينهم من
دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك وأهل المدينة من مسلم وكافر، وأبصروهم، وكلموهم. ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله، ونعيذك به من شر الإنس والجن، ثم رجعوا إلى مضاجعهم، فماتوا. فألقى الملك عليهم ثيابه، وجعل لكل منهم تابوتا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج. وبنى على باب الكهف مسجدا. وقيل لما انتهوا إلى الكهف، قال لهم الفتى: مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثمة مسجدا، وقيل: المتنازع فيه أمر الفتية قبل بعثهم، أي: أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم. وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال، ويتلقون ذلك من الأساطير، وأفواه الرجال. وعلى التقديرين فـ "الفاء" في قوله عز وجل:
فقالوا فصيحة، أي: أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا فماتوا، فقالوا: أي قال بعضهم:
ابنوا عليهم أي: على باب كهفهم
بنيانا لئلا يتطرق إليهم الناس ضنا بتربتهم، ومحافظة عليها، وقوله تعالى:
ربهم أعلم بهم من كلام المتنازعين، كأنهم لما رأوا عدم اهتدائهم إلى حقيقة حالهم من حيث النسب، ومن حيث العدد، ومن حيث اللبث في الكهف، قالوا ذلك تفويضا للأمر إلى علام الغيوب، أو من كلام الله تعالى ردا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين. وقيل: هو أمرهم، وتدبيرهم عند وفاتهم، أو شأنهم في الموت، والنوم. حيث اختلفوا في أنهم ماتوا، أو ناموا كما في أول مرة فـ "إذ" حينئذ متعلق بقوله تعالى:
قال الذين غلبوا على أمرهم وهم الملك والمسلمون.
لنتخذن عليهم مسجدا وقوله تعالى: "فقالوا" معطوف على يتنازعون، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر، ويتجدد كالتنازع. وقيل: متعلق باذكر مضمرا، وأما تعلقه بأعثرنا فيأباه أن إعثارهم ليس في زمان تنازعهم فيما ذكر بل قبله، وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار، وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع، وهو مؤخر في الوقوع.