ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فإنه استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب ، فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى ، ومنه : أشقى من رائض مهر ، أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاة ، ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم به ، والتحسر على أن يؤمنوا كقوله له عز وجل :
فلعلك باخع نفسك على آثارهم ... الآية . بل للتبليغ والتذكير ، وقد فعلت فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك ، أو لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة ، كما يروى
أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه ، قال له جبريل عليه السلام : أبق على نفسك ، فإن لها عليك حقا . أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة . وقيل : إن
أبا جهل ،
والنضر بن الحرث ، قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقي حيث تركت دين آبائك ، وأن القرآن نزل عليك لتشقى به ، فرد ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لما قالوا . والأول هو الأنسب كما يشهد به الاستثناء الآتي هذا . وإما اسم للقرآن محله الرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبره ، والقرآن ظاهر أوقع موقع العائد إلى المبتدإ ، كأنه قيل : القرآن ما أنزلناه عليك لتشقى . أو النصب على إضمار فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه ، وما بعده جوابه .
وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسما للسورة أيضا ، بخلاف الوجه الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير ، لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مقامه ، فإن القرآن صادق على الصورة لا محالة ، إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدر المشترك بين الكل والبعض ، أو باعتبار الاندراج إن أريد به الكل ، بل لأن نفي كون إنزاله للشقاء يستدعي سبق وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا ، إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب ، أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة . ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إنزال ما أنزل من قبل ، وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه . أما باعتبار الاتحاد فظاهر وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى ، ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل .