[ ص: 26 ] فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى
وقوله تعالى :
فأجمعوا كيدكم تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات . والفاء فصيحة ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريد أن بكم ما ذكر من الإخراج والإذهاب ، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه ، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم ، وارموا عن قوس واحدة . وقرئ : فاجمعوا من الجمع ، ويعضده قوله تعالى :
"فجمع كيده" أي : فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي .
ثم ائتوا صفا أي : مصطفين أمروا بذلك ، لأنه أهيب في صدور الرائين ، وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين . قيل : كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، اثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل . وقيل : تسعمائة وثلاثمائة من الفرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية . وقيل : خمسة عشر ألفا ، وقيل : بضعة وثلاثين ألفا ، والله أعلم . ولعل الموعد كان مكانا متسعا ، خاطبهم
موسى عليه الصلاة والسلام بما ذكره في قطر من أقطاره ، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ، ثم أمروا بأن يأتوا وسطه على الوجه المذكور . وقد فسر الصف بالمصلى لاجتماع الناس فيه في الأعياد والصلوات ، ووجه صحته أن يكون علما لموضع معين من المكان الموعود . وأما إرادة مصلى من مصليات بعد تعين المكان الموعود فلا مساغ لها قطعا .
وقوله تعالى
وقد أفلح اليوم من استعلى اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين ، أي : قد فاز بالمطلوب من غلب ، يريدون بالمطلوب ما وعدهم
فرعون من الأجر والتقريب ، حسبما نطق به قوله تعالى :
قال نعم وإنكم لمن المقربين ، وبمن غلب أنفسهم جميعا على طريقة قولهم :
بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة ، هذا هو اللائق بتجاوب أطراف النظم الكريم . وقد قيل : كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة
موسى عليه الصلاة والسلام : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غلبنا
موسى اتبعناه ، وقيل كان ذلك قولهم : إن كان ساحرا فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر . فيكون إسرارهم حينئذ من
فرعون وملئه ، ويحمل قولهم :
"إن هذان لساحران .." إلخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة ، ثم رجعوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر ، واستقرت آراؤهم على ذلك ، وأبوا إلا المناصبة للمعارضة . وأما جعل ضمير قالوا
لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف ، وأمروهم الإجماع والإزماع ، وإظهار الجلادة بالإتيان على وجه الاصطفاف، فمخل بجزالة النظم الكريم ، كما يشهد به الذوق السليم .