وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
وقوله عز وجل :
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا جواب لقولهم :
"هل هذا إلا بشر.." الخ . متضمن لرد ما دسوا تحت قولهم :
"كما أرسل الأولون" من التعرض بعدم كونه عليه السلام مثل أولئك الرسل صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ، ولذلك قدم عليه جواب قولهم :
"فليأتنا بآية" ، ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله كما مر في تفسير قوله تعالى :
قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين وقوله تعالى :
ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم ، والحق أن ما اتخذوه سببا للتكذيب موجب للتصديق في الحقيقة ، لأن مقتضى الحكمة أن يرسل إلى البشر البشر وإلى الملك الملك ، حسبما ينطق به قوله تعالى :
قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا فإن عامة البشر بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية لتوقفها على التناسب بين المفيض والمستفيض ، فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع ، وإنما الذي تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك منهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب آخر .
وقوله تعالى :
نوحي إليهم استئناف مبين لكيفية الإرسال وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة ، وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه ، والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا مخصوصين من أفراد الجنس مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي ، وحقية مدلوله حسبما يحكيه قوله تعالى :
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين .. إلى قوله تعالى :
وكلم الله موسى تكليما كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وأن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم
[ ص: 57 ] فيقولون ما يقولون . وقرئ : "يوحى إليهم" بالياء على صيغة المبني للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل .
وقوله تعالى :
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنـزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة ، وأما الوقوف عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوام . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، أي : إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلوات لنـزول شبهتكم أمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام ، ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .