يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج يا أيها الناس إثر ما حكى أحوال المجادلين بغير علم وأشير إلى ما يؤول إليه أمرهم ، أقيمت الحجة الدالة على تحقيق ما جادلوا فيه من البعث .
إن كنتم في ريب من البعث من امكانه وكونه مقدورا له تعالى ، أو من وقوعه . وقرئ :
"من البعث" بالتحريك كالجلب في الجلب ، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب مع التنكير المنبئ عن القلة مع أنهم جازمون باستحالته ، وإيراد كلمة الشك مع تقرر حالهم في ذلك وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال إن ارتبتم في البعث ، فقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى :
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا .
فإنا خلقناكم أي : فانظروا إلى مبدإ خلقكم ليزول ريبكم ، فإنا خلقناكم أي : خلقنا كل فرد منكم
من تراب في ضمن خلق
آدم منه خلقا إجماليا فإن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلقه عليه السلام من التراب خلقا للكل منه كما مر تحقيقه مرارا .
ثم من نطفة أي : ثم خلقناكم خلقا تفصيليا من نطفة ، أي : من مني من النطف الذي هو الصب .
ثم من علقة أي : قطعة من الدم جامدة متكونة من المني
ثم من مضغة أي : من قطعة اللحم متكونة من العلقة وهي في الأصل مقدار ما يمضغ .
مخلقة بالجر صفة مضغة ، أي : مستبينة الخلق مصورة .
وغير مخلقة أي : لم يستبن خلقها وصورتها بعد . والمراد : تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء
[ ص: 94 ] من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب السابق المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة على المخلقة ، وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة هذا وقد فسرتا بالمسواة وغير المسواة ، وبالتامة والساقطة وليس بذاك ، وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب ، كما في قوله تعالى :"
ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة ..." الآية مزيد دلالة على عظيم قدرته تعالى وكسر لسورة استبعادهم .
لنبين لكم متعلق بخلقنا ، وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفا ، أي : خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم بذلك ما لا تحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها سر البعث ، فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي تأملا حقيقيا جزم جزما ضروريا بأن على خلق البشر أولا من تراب لم يشم رائحة الحياة قط . وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته ، بل هو أهون في القياس نظرا إلى الفاعل والقابل . وقرئ : "ليبين" بطريق الالتفات .
وقوله تعالى :
ونقر في الأرحام ما نشاء استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم ، وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبين مع كونهما من متمماته ومن مبادئ التبيين أيضا لما أن دلالة الأول على
كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات التي من جملتها البعث المبحوث عنه أجلى وأظهر ، أي : ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها .
إلى أجل مسمى هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه سنتان ، وقيل : أربع سنين ، وفيه إشارة إلى أن بعض ما في الأرحام لا يشاء الله تعالى إقراره فيها بعد تكامل خلقه فتسقطه ، والتعرض للإزلاق لا يناسب المقام لأن الكلام فيما جرى عليه أطوار الخلق وهذا صريح في أن المراد بغير المخلقة ليس من ولد ناقصا أو معيبا ، وأن ما فصل إلى هنا هي الأطوار المتواردة على المولود قبل الولادة . وقرئ : "يقر" بالياء ، و"نقر" و "يقر" بضم القاف من قررت الماء إذا أصببته .
ثم نخرجكم أي : من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى .
طفلا أي : حال كونكم أطفالا ، والإفراد باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس المنتظم للواحد والمتعدد . وقرئ : "يخرجكم" بالياء .
وقوله تعالى :
ثم لتبلغوا أشدكم علة لنخرجكم معطوفة على علة أخرى له مناسبة لها ، كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل والتمييز ، وقيل : التقدير : ثم نمهلكم لتبلغوا .. إلخ . وما قيل إنه معطوف على نبين مخل بجزالة النظم الكريم . هذا وقد قرئ مما قبله من الفعلين بالنصب حكاية وغيبة ، فهو حينئذ عطف على "نبين" مثلهما ، والمعنى : خلقناكم على التدريج المذكور لغايتين مترتبتين عليه ، إحداهما أن نبين شئوننا ، والثانية أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم . وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات ، وإعادة اللام ههنا مع تجريد الأولين عنها للإشعار بأصالته في الغرضية بالنسبة إليهما إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة ، وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال ، والأشد من الفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسد والقتود ، وكأنها حين كانت شدة في غير شيء بنيت على لفظ الجمع
ومنكم من يتوفى أي : بعد بلوغ الأشد أو قبله .
[ ص: 95 ] وقرئ : "يتوفى" مبنيا للفاعل ، أي : يتوفاه الله تعالى .
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخوف . وقرئ بسكون الميم ، وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعيين الفاعل .
لكيلا يعلم من بعد علم أي : علم كثير
شيئا أي : شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله ، أي : ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولية من ضعف البنية وسخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه . وفيه من
التنبيه على صحة البعث ما لا يخفى .
وترى الأرض هامدة حجة أخرى على صحة البعث، والخطاب لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار ، وهي بصرية . و"هامدة" حال من الأرض ، أي : ميتة يابسة من همدت النار : إذا صارت رمادا .
فإذا أنزلنا عليها الماء أي : المطر
اهتزت تحركت بالنبات
وربت انتفخت وازدادت . وقرئ : "ربأت" أي : ارتفعت .
وأنبتت من كل زوج أي : صنف
بهيج حسن رائق يسر ناظره .