لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .
لله ما في السماوات وما في الأرض ؛ من الأمور الداخلة في حقيقتهما؛ والخارجة عنهما؛ المتمكنة فيهما؛ من أولي العلم؛ وغيرهم؛ أي: كلها له (تعالى)؛ خلقا؛ وملكا؛ وتصرفا؛ لا شركة لغيره في شيء منها؛ بوجه من الوجوه؛
وإن تبدوا ما في أنفسكم ؛ من السوء؛ والعزم عليه؛ بأن تظهروه للناس بالقول؛ أو بالفعل؛
أو تخفوه ؛ بأن تكتموه منهم؛ ولا تظهروه؛ بأحد الوجهين؛ ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس؛ وأحاديث النفس؛ التي لا عقد ولا عزيمة فيها؛ إذ التكليف بحسب الوسع؛
يحاسبكم به الله ؛ يوم القيامة؛ وهو حجة على منكري الحساب من المعتزلة؛ والروافض؛ وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به؛ وأما تقديم الإبداء على الإخفاء؛ على عكس ما في قوله - عز وجل -:
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ؛ فلما أن المعلق بما في أنفسهم ههنا هو المحاسبة؛ والأصل فيها الأعمال البادية؛ وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية؛
[ ص: 273 ] كيف لا.. وعلمه - سبحانه - بمعلوماته متعال عن أن يكون بطريق حصول الصور؛ بل وجود كل شيء في نفسه؛ في أي طور كان؛ علم بالنسبة إليه (تعالى)؛ وفي هذا لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة؛ والكامنة؛ خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء؛ إذ ما من شيء يبدى إلا وهو - أو مباديه قبل ذلك - مضمر في النفس؛ فتعلق علمه (تعالى) بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية؛ وقد مر في تفسير قوله (تعالى):
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون .
فيغفر : بالرفع؛ على الاستئناف؛ أي: فهو يغفر بفضله؛
لمن يشاء ؛ أن يغفر له؛
ويعذب ؛ بعدله؛
من يشاء ؛ أن يعذبه؛ حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم؛ والمصالح؛ وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه؛ وقرئ بجزم الفعلين؛ عطفا على جواب الشرط؛ وقرئ بالجزم من غير فاء؛ على أنهما بدل من الجواب؛ بدل البعض؛ أو الاشتمال؛ ونظيره الجزم على البدلية من الشرط في قوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وإدغام الراء في اللام لحن؛
والله على كل شيء قدير : تذييل مقرر لمضمون ما قبله؛ فإن كمال قدرته (تعالى) على جميع الأشياء موجب لقدرته - سبحانه - على ما ذكر من المحاسبة؛ وما فرع عليه من المغفرة؛ والتعذيب.