لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم لن تنالوا البر من ناله نيلا إذا أصابه، و الخطاب للمؤمنين و هو كلام مستأنف سيق لبيان ما ينفع المؤمنين و يقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم، أي: لن تبلغوا حقيقة البر الذي يتنافس فيه المتنافسون و لن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الأبرار أو لن تنالوا بر الله تعالى و هو ثوابه و رحمته و رضاه و جنته.
حتى تنفقوا أي: في سبيل الله عز وجل رغبة فيما عنده و "من" في قوله تعالى:
مما تحبون تبعيضية، و يؤيده قراءة من قرأ "بعض ما تحبون". وقيل: بيانية و "ما" موصولة أو موصوفة، أي: مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم و أحبها إليكم كما في قوله تعالى:
أنفقوا من طيبات ما كسبتم أو مما يعمها وغيرها من الأعمال و المهجة، على أن المراد بالإنفاق: مطلق البذل، وفيه من الإيذان بعزة منال البر ما لا يخفى، و كان السلف رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله عز وجل. و روي أنها لما نزلت
nindex.php?page=hadith&LINKID=651368جاء nindex.php?page=showalam&ids=86أبو طلحة فقال، يا رسول الله إن أحب أموالي إلى بيرحاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال عليه السلام: "بخ بخ ذاك مال رايح أو رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسمها في أقاربه. وجاء nindex.php?page=showalam&ids=138زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال هذه في سبيل الله فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد فكأن زيدا وجد في نفسه و قال: إنما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله تعالى قد قبلها منك". قيل: وفيه دلالة على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل. وكتب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه إلى
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي
جلولاء يوم فتحت
مدائن كسرى فلما جاءت إليه أعجبته
[ ص: 58 ] فقال إن الله تعالى يقول:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها. وروي أن
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز كانت لزوجته جارية بارعة الجمال وكان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر راغبا فيها و كان قد طلبها منها مرارا فلم تعطها إياه، ثم لما ولي الخلافة زينتها وأرسلتها إليه فقالت: قد وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك، قال: من أين ملكتها؟ قالت: جئت بها من بيت
أبي عبد الملك ففتش عن كيفية تملكه إياها، فقيل: إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أخذت من تركته، ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعا بإعطاء المال ثم توجه إلى الجارية وكان يهواها هوى شديدا، فقال: أنت حرة لوجه الله تعالى، فقالت: لم يا أمير المؤمنين؟ وقد أزحت عن أمرها كل شبهة، قال: لست إذن ممن نهى النفس عن الهوى.
وما تنفقوا من شيء "ما" شرطية جازمة لـ "تنفقوا" منتصبة به على المفعولية، و "من" تبعيضية متعلقة بمحذوف هو صفة لاسم الشرط، أي: أي شيء تنفقوا كائنا من الأشياء، فإن المفرد في مثل هذا الموضع واقع موقع الجمع. وقيل: محل الجار و المجرور النصب على التمييز، أي: أي شيء تنفقوا طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه.
فإن الله به عليم تعليل لجواب الشرط واقع موقعه، أي: فمجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عليم بكل شيء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء من ذاته و صفاته، و تقديم الجار و المجرور لرعاية الفواصل، و فيه من الترغيب في إنفاق الجيد و التحذير عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.