الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد الله نزل أحسن الحديث هو القرآن الكريم . روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له صلى الله عليه وسلم : حدثنا حديثا . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس رضي الله عنهم قالوا : لو حدثتنا . فنزلت . والمعنى أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث، وفي إيقاع الاسم الجليل مبتدأ وبناء نزل عليه من تفخيم أحسن الحديث، ورفع محله، والاستشهاد على حسنه، وتأكيد استناده إليه تعالى، وأنه من عنده لا يمكن صدوره عن غيره، والتنبيه على أنه وحي معجز ما لا يخفى .
كتابا بدل من أحسن الحديث، أو حال منه سواء اكتسب من المضاف إليه تعريفا أولا، فإن مساغ مجيء الحال من النكرة المضافة اتفاقي ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة إما لاتصافه بقوله تعالى :
متشابها ، أو لكونه في قوة مكتوبا . ومعنى كونه متشابها تشابه معانيه في الصحة والإحكام والابتناء على الحق، والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه في الفصاحة، وتجاوب نظمه في الإعجاز .
مثاني صفة أخرى لكتابا، أو حال أخرى منه، وهو جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثني من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه . وقيل : لأنه يثنى في التلاوة، وقيل : هو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، كما في قوله تعالى :
ثم ارجع البصر كرتين أي : كرة بعد كرة . ووقوعه صفة لكتابا باعتبار تفاصيله كما يقال القرآن سور وآيات، ويجوز أن ينتصب على التمييز من متشابها كما يقال : رأيت رجلا حسنا شمائل، أي : شمائله . والمعنى متشابهة مثانيه .
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم قيل : صفة لكتابا، أو حال منه لتخصصه بالصفة، والأظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه، ولتقرير كونه أحسن الحديث، والاقشعرار التقبض . يقال : اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس . قد ضم إليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال : اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من منكر هائل دهمه بغتة، والمراد إما بيان إفراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير، أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق . والمعني أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية، تقشعر منها جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاء، ورهبتهم رغبة، وذلك قوله تعالى :
ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله أي : ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى، وإنما لم يصرح بها إيذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى
ذلك أي : الكتاب الذي شرح أحواله .
هدى الله يهدي به من يشاء أن يهديه بصرف مقدوره إلى الاهتداء بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية، ودلائل كونه من عند الله تعالى .
ومن يضلل الله أي : يخلق فيه الضلالة بصرف قدرته إلى مبادئها، وإعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية، وعدم تأثره بوعيده ووعده أصلا، أو
[ ص: 252 ] ومن يخذل .
فما له من هاد يخلصه من ورطة الضلال . وقيل : ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده، ومن يضلل، أي : من لم يؤثر فيه لطفه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد من مؤثر فيه بشيء قط .