لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم لا تحسبن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له.
الذين يفرحون بما أتوا أي: بما فعلوا كما في قوله تعالى:
إنه كان وعده مأتيا ويدل عليه قراءة أبي "يفرحون بما فعلوا"، وقرئ "بما آتوا" بمعنى أعطوا "وبما أوتوا" أى: بما أوتوه من علم التوراة. قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهود حرفوا التوراة وفرحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا
[ ص: 126 ] الحق وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا. وقيل: فرحوا بكتمان النصوص الناطقة بنبوته عليه الصلاة والسلام وأحبوا أن يحمدوا بأنهم متبعون ملة
إبراهيم عليه السلام، فالموصول عبارة عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضع ضميرهم، والجملة مسوقة لبيان ما تستتبعه أعمالهم المحكية من العقاب الأخروي إثر بيان قباحتها، وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وهو إصرارهم على ما هم عليه من القبائح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة، وقد نظم ذلك في سلك الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند المخاطب إيذانا بشهرة اتصافهم بذلك. وقيل: هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في ذلك واستحمدوا به. وقيل: هم المنافقون كافة، وهو الأنسب بظاهر قوله تعالى:
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف معزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة. فالموصول عبارة عن طائفة معهودة من المذكورين وغيرهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود، ولعل الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أوليا، وأيا ما كان; فهو مفعول أول لـ"تحسبن". وقوله تعالى:
فلا تحسبنهم تأكيد له، والفاء زائدة والمفعول الثاني قوله تعالى:
بمفازة من العذاب أي: ملتبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي ولا يضر تأنيثها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله:
فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا بالموارد
ولا سبيل إلى جعلها اسم مكان على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة لها، أي: بمفازة كائنة من العذاب لأنها ليست من العذاب، وتقدير فعل خاص ليصح به المعنى، أي: بمفازة منجية من العذاب مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه. وقرئ بضم الباء في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا. وقرئ بياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحسبان ومفعولاه كما ذكر. وقرئ بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعل للموصول والمفعول الأول محذوف لكونه عين الفاعل والثاني بمفازة، أي: لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم فائزين. وقوله تعالى:
فلا تحسبنهم تأكيد للأول والفاء زائدة كما مر، ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصارا لدلالة مفعولي الثاني عليهما على عكس ما في قوله:
بأي كتاب أو بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب
حيث حذف فيه مفعولا الثاني لدلالة مفعولي الأول عليهما أو على أن الفعل الأول للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثاني محذوف لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسند إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه السلام ومفعولاه الضمير المنصوب. وقوله تعالى:
بمفازة وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم، وأما نهيه عليه السلام فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه السلام.
ولهم عذاب أليم بعدما أشير
[ ص: 127 ] إلى عدم نجاتهم من مطلق العذاب حقق أن لهم فردا منه لا غاية له في المدة والشدة كما تلوح به الجملة الاسمية والتنكير التفخيمي والوصف.