إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون إنا أنزلنا التوراة كلام مستأنف سيق لبيان علو شأن التوراة ، ووجوب مراعاة أحكامها ، وأنها لم تزل مرعية فيما بين الأنبياء ، ومن يقتدي بهم كابرا عن كابر ، مقبولة لكل أحد من الحكام والمتحاكمين ، محفوظة عن المخالفة والتبديل تحقيقا لما وصف به المحرفون من عدم إيمانهم بها ، وتقريرا لكفرهم وظلمهم .
وقوله تعالى :
فيها هدى ونور حال من التوراة ، فإن ما فيها من الشرائع والأحكام من حيث إرشادها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدى ، ومن حيث إظهارها وكشفها ما استبهم من الأحكام وما يتعلق بها من الأمور المستورة بظلمات الجهل نور .
وقوله تعالى :
يحكم بها النبيون ; أي : أنبياء بني إسرائيل . وقيل :
موسى ومن بعده من الأنبياء . جملة مستأنفة مبينة لرفعة رتبتها وسمو طبقتها ، وقد جوز كونه حالا من التوراة ، فيكون حالا مقدرة ; أي : يحكمون بأحكامها ويحملون الناس عليها ، وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ . وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا ، من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر ، ولأن في المؤخر وما يتعلق به نوع طول ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم .
[ ص: 41 ]
وقوله تعالى :
الذين أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح ، لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة ، فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعا ، فيكون وصفهم به بعد وصفهم بها تنزلا من الأعلى إلى الأدنى ، بل لتنويه شأن الصفة ، فإن إبراز وصف في معرض مدح العظماء منبئ عن عظم قدر الوصف لا محالة ، كما في وصف الأنبياء بالصلاح ، ووصف الملائكة بالإيمان عليهم السلام ، ولذلك قيل : أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف ، وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريض باليهود ، وأنهم بمعزل من الإسلام ، والاقتداء بدين الأنبياء عليهم السلام ، لا سيما مع ملاحظة ما وصفوا به في قوله تعالى :
للذين هادوا وهو متعلق بيحكم ; أي : يحكمون فيما بينهم ، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم ، كأنه قيل : لأجل الذين هادوا ، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه ، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له ، كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ، ففيه تعريض بالمحرفين . وقيل : التقدير : للذين هادوا وعليهم ، فحذف ما حذف لدلالة ما ذكر عليه . وقيل : هو متعلق بأنزلنا . وقيل : بهدى ونور ، وفيه فصل بين المصدر ومعموله . وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة لهما ; أي : هدى ونور كائنان للذين هادوا .
والربانيون والأحبار ; أي : الزهاد والعلماء من ولد
هارون الذين التزموا طريقة النبيين ، وجانبوا دين اليهود . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الربانيون : الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره . والأحبار : هم الفقهاء ، واحده : حبر ، بالفتح والكسر ، والثاني أفصح ، وهو رأي
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء ، مأخوذ من التحبير والتحسين ، فإنهم يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه ، وهو عطف على " النبيون " ; أي : هم أيضا يحكمون بأحكامها . وتوسيط المحكوم لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها ، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون ، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك .
كما ينبئ عنه قوله تعالى :
بما استحفظوا ; أي : بالذي استحفظوه من جهة النبيين ، وهو التوراة ، حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها ، وفي إبهامها أولا .
ثم بيانها ثانيا بقوله تعالى :
من كتاب الله من تفخيمها وإجلالها ذاتا وإضافة ، وتأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها ما لا يخفى ، وإيرادها بعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظها عن التغيير من جهة الكتابة . والباء الداخلة على الموصول متعلقة بيحكم ، لكن لا على أنها صلة له ، كالتي في قوله تعالى : "
بها " ليلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد ، بل على أنها سببية ; أي : ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بسبب ما حفظوه من كتاب الله ، حسبما وصاهم به أنبياؤهم ، وسألوهم أن يحفظوه ، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات ، بل من حيث كونه محظوظا ، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له . وقيل : الباء صلة لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى : "
يحكم بها النبيون " ، عطف جملة على جملة ; أي : ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير .
وكانوا عليه شهداء ; أي : رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه ، فتغيير الأسلوب لما ذكر من المزايا . وقيل : " بما استحفظوا " بدل من
[ ص: 42 ] قوله تعالى : " بها " ، بإعادة العامل ، وهو بعيد ، وكذا تجويز كون الضمير في " استحفظوا " للأنبياء ، والربانيين ، والأحبار جميعا ، على أن الاستحفاظ من جناب الله عز وجل ; أي : كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء .
وقوله تعالى وتقدس :
فلا تخشوا الناس خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات ، وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة ، والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة ، وكونها معنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملا وحفظا ، فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها ، والمحافظة عليها بأي وجه كان فضلا عن التحريف والتغيير ، ولما كان مدار جراءتهم على ذلك خشية ذي سلطان ، أو رغبة في الحظوظ الدنيوية ، نهوا عن كل منهما صريحا ; أي : إذا كان شأنها كما ذكر ، فلا تخشوا الناس كائنا من كان ، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم .
واخشون في الإخلال بحقوق مراعاتها ، فكيف بالتعرض لها بسوء .
ولا تشتروا بآياتي الاشتراء : استبدال السلعة بالثمن ; أي : أخذها بدلا منه ، لا بذل الثمن لتحصيلها ، كما قيل : ثم استعير لأخذ شيء بدلا مما كان له ، عينا كان أو معنى ، أخذا منوطا بالرغبة فيما أخذ ، والإعراض عما أعطي ونبذ كما فصل في تفسير قوله تعالى :
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ; فالمعنى : لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها ، أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلا منها .
ثمنا قليلا من الرشوة والجاه ، وسائر الحظوظ الدنيوية ، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها ، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها ، وإنما عبر عن المشترى الذي هو العمدة في عقود المعاوضة ، والمقصد الأصلي بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إلى تحصيله ، وأبرزت الآيات التي حقها أن يتنافس فيها المتنافسون في معرض الآلات والوسايط ، حيث قرنت بالباء التي تصحب الوسائل ، إيذانا بمبالغتهم في التعكيس بأن جعلوا المقصد الأقصى وسيلة ، والوسيلة الأدنى مقصدا .
ومن لم يحكم بما أنزل الله كائنا من كان دون المخاطبين خاصة ، فإنهم مندرجون فيه اندراجا أوليا ; أي : من لم يحكم بذلك مستهينا به منكرا له ، كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاء بينا .
فأولئك إشارة إلى " من " ، والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها .
هم الكافرون لاستهانتهم به ، و"
هم " إما ضمير الفصل ، أو مبتدأ وما بعده خبره . والجملة خبر لأولئك ، وقد مر تفصيله في مطلع سورة البقرة ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير ، حيث علق فيه
الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى ، فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه ، لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ، ووضع غيره موضعه ، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا .