وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوبوإذ قال الله يا عيسى ابن مريم معطوف على "
إذ قال الحواريون " ، منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك ; أي : اذكر للناس وقت قول الله عز وجل له عليه السلام في الآخرة ، توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم ، بإقراره عليه السلام على رءوس الأشهاد بالعبودية ، وأمره لهم بعبادته عز وجل ، وصيغة الماضي لما مر من الدلالة على التحقق والوقوع .
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين الاتخاذ إما متعد إلى مفعولين فإلهين ثانيهما ، وإما إلى واحد فهو حال من المفعول ، وليس مدار أصل الكلام أن القول متيقن ، والاستفهام لتعيين القائل ، كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشي ، وعليه قوله تعالى :
أأنت فعلت هذا بآلهتنا ونظائره ، بل على أن المتيقن هو الاتخاذ ، والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه السلام ، أو من تلقاء أنفسهم ، كما في قوله تعالى :
أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل .
وقوله تعالى :
من دون الله متعلق بالاتخاذ ، ومحله النصب على أنه حال من فاعله ; أي : متجاوزين الله ، أو بمحذوف هو صفة لإلهين ; أي : كائنين من دونه تعالى ، وأيا ما كان فالمراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه ، كما في قوله تعالى :
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ، وقوله عز وجل :
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلى قوله سبحانه وتعالى :
عما يشركون ; إذ به يتأتى التوبيخ ويتسنى التقريع والتبكيت .
ومن توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ، ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يد
عيسى ومريم عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى ، بل هما خلقاها ; فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ، ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض ، فقد أبعد عن الحق بمراحل ، وأما من تعمق فقال : إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادة ، فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده تعالى ، فقد غفل عما يجديه واشتغل بما لا يعنيه كدأب من قبله ، فإن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا ، لا بما يلزمه بضرب من التأويل ، وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى
عيسى عليه السلام .
قال استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام ، كأنه قيل : فماذا يقول
عيسى عليه السلام حينئذ ؟ فقيل : يقول ، وإيثار صيغة الماضي لما مر مرارا .
سبحانك سبحان : علم للتسبيح ، وانتصابه على المصدرية ، ولا يكاد يذكر ناصبه ،
[ ص: 101 ] وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح ، الذي هو الذهاب والإبعاد في الأرض ، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل ، ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة ، المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ، ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى ; أي : أنزهك تنزيها لائقا بك من أن أقول ذلك ، أو من أن يقال في حقك ذلك .
وأما تقدير : من أن يكون لك شريك في الألوهية ; فلا يساعده سياق النظم الكريم وسياقه .
وقوله تعالى :
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه منه ، و" ما " عبارة عن القول المذكور ; أي : ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله .
وإيثار " ليس " على الفعل المنفي ، لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية ، وإفادة التأكيد بما في حيزه من الباء ، فإن اسمه ضميره العائد إلى " ما " وخبره " بحق " ، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في : سقيا لك ، ونحوه .
وقوله تعالى :
إن كنت قلته فقد علمته استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام بالطريق البرهاني ، فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعا ، فحيث انتفى علمه تعالى به انتفى صدوره عنه حتما ، ضرورة أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم .
تعلم ما في نفسي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله ، كأنه قيل : لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي ، فكيف بما أعلنه .
وقوله تعالى :
ولا أعلم ما في نفسك بيان للواقع وإظهار لقصوره ; أي : ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك ، وقوله : " في نفسك " للمشاكلة . وقيل : المراد بالنفس : هو الذات ، ونسبة المعلومات إليها لما أنها مرجع الصفات التي من جملتها العلم المتعلق بها ، فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة .
وقوله تعالى :
إنك أنت علام الغيوب تعليل لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما .