صفحة جزء
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون

وقوله تعالى : وهو الله جملة من مبتدأ وخبر ، معطوفة على ما قبلها ، مسوقة لبيان شمول أحكام إلهيته تعالى لجميع المخلوقات ، وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد ، وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء ، إثر الإشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف بيان كيفية خلقهم وتقدير آجالهم .

قوله تعالى : في السماوات وفي الأرض متعلق بالمعنى [ ص: 108 ] الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل ، إما باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ، وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال ، فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية الكلية ، والتصرف الكامل حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة ، فعلق به الظرف من تلك الحيثية ، فصار كأنه قيل : وهو المالك ، أو المتصرف المدبر فيهما ، كما في قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .

وليس المراد بما ذكر من الاعتبارين أن الاسم الجليل يحمل على معناه اللغوي ، أو على معنى المالك ، أو المتصرف ، أو نحو ذلك ، بل مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمنه ، كما لوحظ مع اسم الأسد في قوله : أسد علي ... إلخ ، ما اشتهر به من وصف الجراءة التي اشتهر بها مسماه ، فجرى مجرى جريء علي .

وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير ; أي : هو المعروف بذلك في السماوات وفي الأرض ، أو هو المعروف المشتهر بالصفات الكمالية ، أو هو المعروف بالإلهية فيهما ، أو نحو ذلك ، بمعزل من التحقيق ، فإن المعتبر مع الاسم هو نفس الوصف الذي اشتهر به ; إذ هو الذي يقتضيه المقام حسبما بين آنفا لاشتهاره به ، ألا يرى أن كلمة " علي " في المثال المذكور لا يمكن تعليقها باشتهار الاسم بالجراءة قطعا .

وقيل : هو متعلق بما يفيده التركيب الحصري من التوحد والتفرد ، كأنه قيل : وهو المتوحد بالإلهية فيهما .

وقيل : بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة ، كأنه قيل : وهو الذي يقال له : الله فيهما ، لا يشرك به شيء في هذا الاسم على الوجه الذي سبق من اعتبار معنى التوحد ، أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع ، لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحد بالإلهية ، أو على تقدير القول ، وقد جوز أن يكون الظرف خبرا ثانيا على أن كونه سبحانه فيهما عبارة عن كونه تعالى مبالغا في العلم بما فيهما ; بناء على تنزيل علمه المقدس عن حصول الصور والأشباح ، لكونه حضوريا ، منزلة كونه تعالى فيهما ، وتصويره به على طريقة التمثيل المبني على تشبيه حالة علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما .

فإن العالم إذا كان في مكان كان عالما به وبما فيه على وجه لا يخفى عليه منه شيء ، فعلى هذا يكون قوله عز وجل : يعلم سركم وجهركم ; أي : ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال ، وما أسررتموه وما أعلنتموه ، كائنا ما كان من الأقوال والأعمال ، بيانا وتقريرا لمضمونه ، وتحقيقا للمعنى المراد منه ، وتعليق علمه عز وجل بما ذكر خاصة مع شموله لجميع ما فيهما ، حسبما تفيده الجملة السابقة لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين .

وكذا على الوجه الثاني ; فإن ملاحظة الاسم الجليل من حيث المالكية الكلية ، والتصرف الكامل الجاري على النمط المذكور ، مستتبعة لملاحظة علمه المحيط حتما ، فيكون هذا بيانا وتقريرا له بلا ريب .

وأما على الأوجه الثلاثة الباقية ، فلا سبيل إلى كونه بيانا ، لكن لا لما قيل من أنه لا دلالة لاستواء السر والجهر في علمه تعالى على ما اعتبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم ; إذ ربما يعبد ويختص به من ليس له كمال العلم ، فإنه باطل قطعا ; إذ المراد بما ذكر هو المعبودية بالحق ، والاختصاص بالاسم الجليل .

ولا ريب في أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمال العلم بديهة ، بل لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مدلول شيء من المعبودية بالحق ، والاختصاص بالاسم حتى يكون هذا بيانا له ، وبهذا تبين أنه ليس ببيان على الوجه الثالث أيضا ، لما أن التوحد بالإلهية لا يعتبر في مفهومه العلم الكامل ، ليكون هذا بيانا له ، بل هو معتبر فيما صدق عليه المتوحد ، وذلك غير كاف [ ص: 109 ] في البيانية .

وقيل : هو خبر بعد خبر عند من يجوز كون الخبر الثاني جملة ، كما في قوله تعالى : فإذا هي حية تسعى .

وقيل : هو الخبر ، والاسم الجليل بدل من " هو " ، وبه يتعلق الظرف المتقدم ، ويكفي في ذلك كون المعلوم فيهما ، كما في قولك : رميت الصيد في الحرم : إذا كان هو فيه وأنت خارجه .

ولعل جعل سرهم وجهرهم فيهما لتوسيع الدائرة ، وتصوير أنه لا يعزب عن علمه شيء منهما في أي مكان كان ، لا لأنهما قد يكونان في السماوات أيضا ، وتعميم الخطاب لأهلها تعسف لا يخفى .

ويعلم ما تكسبون ; أي : ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر ، من الأعمال المكتسبة بالقلوب أو بالجوارح ، سرا أو علانية ، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر ; لإظهار كمال الاعتناء بها ; لأنها التي يتعلق بها الجزاء ، وهو السر في إعادة يعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية