أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر ، والمعطوفين عليهم عليهم السلام ، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية ، وغيرها من النعوت الجليلة الثابتة لهم ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الإيذان بعلو طبقتهم ، وبعد منزلتهم في الفضل والشرف ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى :
الذين آتيناهم الكتاب ; أي : جنس الكتاب المتحقق في ضمن ; أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية ، والمراد بإيتائه : التفهيم التام بما فيه من الحقائق ، والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء ، أو بالإيراث بقاء ، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين .
"الحكم" ; أي : الحكمة ، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب .
والنبوة ; أي : الرسالة .
فإن يكفر بها ; أي : بهذه الثلاثة ، أو بالنبوة الجامعة للباقين .
هؤلاء ; أي : كفار
قريش ، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه من القرآن ، كافرون بما يصدقه جميعا ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر .
فقد وكلنا بها ; أي : أمرنا بمراعاتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها .
قوما ليسوا بها بكافرين ; أي : في وقت من الأوقات ، بل مستمرون على الإيمان بها ، فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيد دوام الثبوت ، كذلك السلبية تفيد دوام النفي بمعونة المقام ، لا نفي الدوام كما حقق في مقامه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد رضي الله تعالى عنهما : هم
الأنصار وأهل
المدينة . وقيل : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مؤمن من بني
آدم . وقيل :
الفرس ; فإن
[ ص: 160 ] كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء ، وبالكتب المنزلة إليهم ، عاملون بما فيها من أصول الشرائع ، وفروعها الباقية في شريعتنا ، وبه يتحقق الخروج عن عهدة التوكيل ، دون المنسوخة منها ، فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها ، وقد مر تحقيقه في تفسير سورة المائدة .
وقيل : هم الأنبياء المذكورون ; فالمراد بالتوكيل : الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها ، كما هو شأنهم في حق كتابهم ، ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي من جملتها القرآن الكريم .
وقيل : هم الملائكة ; فالتوكيل هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها ، وأيا ما كان فتنكير قوما للتفخيم ، والباء الأولى صلة لكافرين ، قدمت عليه محافظة على الفواصل ، والثانية لتأكيد النفي ، وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح ، فلما ذكر آنفا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، ولأن فيه نوع طول ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم ، أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور ; أي : فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا ، فقد وفقنا للإيمان بها قوما فخاما ليسوا بكافرين بها قطعا ، بل مستمرون على الإيمان بها والعمل بما فيها ، ففي إيمانهم بها مندوحة عن إيمان هؤلاء .
ومن هذا تبين أن الوجه أن يكون المراد بالقوم : إحدى الطوائف المذكورة ; إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه ، تتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ، وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام ، فإيمانهم به ليس من قبيل إيمان آحاد الأمة .