قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة ، أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم قل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم ، وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت لا أصل له قطعا ، بأن يبين لهم ما حرمه عليهم .
وفي قوله تعالى :
لا أجد في ما أوحي إلي محرما إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو الوحي ، وأنه صلى الله عليه وسلم قد تتبع جميع ما أوحي إليه وتفحص عن المحرمات ، فلم يجد غير ما فصل ، وفيه مبالغة في بيان انحصارها في ذلك . ومحرما صفة لمحذوف ; أي : لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي طعاما محرما من المطاعم التي حرموها .
على طاعم ; أي : أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ، ردا على قولهم : " محرم على أزواجنا " .
وقوله تعالى :
يطعمه لزيادة التقرير .
إلا أن يكون ; أي : ذلك الطعام .
ميتة وقرئ : ( تكون ) بالتاء لتأنيث الخبر ، وقرئ : ( ميتة ) بالرفع على أن كان تامة .
وقوله تعالى :
أو دما مسفوحا حينئذ عطف على أن مع ما في حيزه ; أي : إلا وجود ميتة ، أو دما مسفوحا ; أي : مصبوبا ، كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد .
أو لحم خنزير فإنه ; أي : الخنزير .
رجس ; أي : لحمه قذر لتعوده أكل النجاسات ، أو خبيث .
أو فسقا عطف على " لحم خنزير " ، وما بينهما اعتراض مقرر لحرمته .
أهل لغير الله به صفة له موضحة ; أي : ذبح على اسم الأصنام ، وإنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق ، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له لأهل ، وهو عطف على يكون ، والمستكن راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون .
فمن اضطر ; أي :
[ ص: 195 ] أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة بوجه من الوجوه المضطرة .
غير باغ في ذلك على مضطر آخر مثله .
ولا عاد قدر الضرورة .
فإن ربك غفور رحيم مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك ، وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد لتحققت الحرمة المبحوث عنها ، بل للتحذير من حرام آخر هو أخذه حق مضطر آخر ، فإن من أخذ لحم الميتة من يد مضطر آخر فأكله ، فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة ، بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر .
وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا ، فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة ، وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية ، لكنه تعالى يغفر له ويرحمه .
والآية محكمة لأنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه في تلك الغاية غيره ، ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر ، فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ولا على حل الأشياء التي هي غيرها إلا مع الاستصحاب .