قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده ، كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ ؟ وبه يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة ; إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة ، وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين ، كما في حكاية الخلق والتصوير .
ما منعك ألا تسجد ; أي : أن تسجد كما وقع في سورة ( ص ) ، و" لا " مزيدة مؤكدة لمعنى الفعل الذي دخلت عليه ، كما في قوله تعالى :
لئلا يعلم أهل الكتاب ، منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود . وقيل : الممنوع عن الشيء مصروف إلى خلافه ، فالمعنى : ما صرفك إلى أن لا تسجد .
إذ أمرتك قيل : فيه دلالة على أن مطلق الأمر للوجوب والفور ، وفي سورة الحجر :
يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ، وفي سورة ( ص ) :
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي .
واختلاف العبارات عند الحكاية يدل على أن اللعين قد أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص ; مخالفة الأمر ، ومفارقة الجماعة ، والإباء عن الانتظام في سلك أولئك المقربين ، والاستكبار مع تحقير
آدم عليه السلام ، وقد وبخ حينئذ على كل واحدة منها ، لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه ; اكتفاء بما ذكر في موطن آخر ، وإشعارا بأن كل واحدة منها كافية في التوبيخ ، وإظهار بطلان ما ارتكبه ، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة ، وسورة بني إسرائيل ، وسورة الكهف ، وسورة طه .
قال استئناف كما سبق ، مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ ، كأنه قيل : فماذا قال اللعين عند ذلك ؟ فقيل : قال .
أنا خير منه متجانفا عن تطبيق جوابه على السؤال بأن يقول : منعني كذا ، مدعيا لنفسه بطريق الاستئناف شيئا بين الاستلزام لمنعه من السجود على زعمه ، ومشعرا بأن من شأنه هذا لا يحسن أن يسجد لمن دونه ، فكيف يحسن أن يؤمر به ، كما ينبئ عنه ما في سورة الحجر من قوله :
لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ; فهو أول من أسس بنيان التكبر ، واخترع القول بالحسن والقبح العقليين .
وقوله تعالى :
خلقتني من نار وخلقته من طين تعليل لما ادعاه من فضله عليه ، ولقد أخطأ اللعين ، حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وزل عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى :
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ; أي : بغير واسطة على وجه الاعتناء به ، وما من جهة الصورة كما نبه عليه بقوله تعالى :
ونفخت فيه من روحي ، وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليه السلام حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره ، وفي الآية دليل على الكون والفساد ، وأن الشياطين أجسام كائنة ، ولعل إضافة خلق البشر إلى الطين ، والشياطين إلى النار ، باعتبار الجزء الغالب .
[ ص: 217 ]