تفسير سورة المؤمنون
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون
هذا تنويه من الله، بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها؛ فليزن العبد نفسه وغيره على هذه الآيات يعرف بذلك ما معه وما مع غيره من الإيمان، زيادة ونقصا، كثرة وقلة. (1) فقوله
قد أفلح المؤمنون ؛ أي: قد فازوا وسعدوا ونجحوا، وأدركوا كل ما يرام، المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. (2) الذين من صفاتهم الكاملة أنهم
في صلاتهم خاشعون :
والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبا بين يدي ربه، مستحضرا
[ ص: 1121 ] جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية، وهذا روح الصلاة والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد،
فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب - وإن كانت مجزية مثابا عليها - فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.
(3)
والذين هم عن اللغو : وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة،
معرضون ؛ رغبة عنه وتنزيها لأنفسهم وترفعا عنه،
وإذا مروا باللغو مروا كراما ، وإذا كانوا معرضين عن اللغو؛ فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى،
وإذا ملك العبد لسانه وخزنه - إلا في الخير- كان مالكا لأمره، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=32لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664911 "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: كف عليك هذا". فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات.
(4)
والذين هم للزكاة فاعلون أي مؤدون لزكاة أموالهم، على اختلاف أجناس الأموال، مزكين لأنفسهم من أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها، فأحسنوا في عبادة الخالق في الخشوع في الصلاة، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.
(5)
والذين هم لفروجهم حافظون عن الزنا، ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك، كالنظر واللمس ونحوهما. فحفظوا فروجهم من كل أحد. (6)
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم من الإماء المملوكات
فإنهم غير ملومين بقربهما؛ لأن الله تعالى أحلهما.
(7)
فمن ابتغى وراء ذلك غير الزوجة والسرية
فأولئك هم العادون الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه، المتجرئون على محارم الله. وعموم هذه الآية يدل على تحريم نكاح المتعة، فإنها ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها، ولا مملوكة، وتحريم نكاح المحلل لذلك.
ويدل قوله
أو ما ملكت أيمانهم أنه
يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه، فلو كان له بعضها لم تحل؛ لأنها ليست مما ملكت يمينه، بل هي ملك له ولغيره، فكما أنه لا يجوز أن يشترك
[ ص: 1122 ] في المرأة الحرة زوجان فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة سيدان.
(8)
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ؛ أي: مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد، قال تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وكذلك العهد، يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم والذي بينهم وبين العباد، وهي الالتزامات والعقود التي يعقدها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها، ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها. (8)
والذين هم على صلواتهم يحافظون ؛ أي: يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها، فمدحهم بالخشوع بالصلاة، وبالمحافظة عليها؛ لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين، فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع أو على الخشوع من دون محافظة عليها فإنه مذموم ناقص.
(10)
أولئك الموصوفون بتلك الصفات
هم الوارثون . (11)
الذين يرثون الفردوس الذي هو أعلى الجنة ووسطها وأفضلها؛ لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها، أو المراد بذلك جميع الجنة؛ ليدخل بذلك عموم المؤمنين على درجاتهم ومراتبهم كل بحسب حاله
هم فيها خالدون لا يظعنون عنها، ولا يبغون عنها حولا؛ لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه من غير مكدر ولا منغص.