وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين [ ص: 1324 ] (64) يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة، وفي ضمن ذلك التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى، فقال:
وما هذه الحياة الدنيا في الحقيقة
إلا لهو ولعب تلهو بها القلوب، وتلعب بها الأبدان، بسبب ما جعل الله فيها من الزينة واللذات، والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة، الباهجة للعيون الغافلة، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة، ثم تزول سريعا، وتنقضي جميعا، ولم يحصل منها محبها إلا على الندم والحسرة والخسران.
وأما الدار الآخرة، فإنها دار
الحيوان أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشدة، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذة، من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
لو كانوا يعلمون لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان، ورغبوا في دار اللهو واللعب، فدل ذلك: أن الذين يعلمون، لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا، لما يعلمونه من حالة الدارين.
(65-66) ثم ألزم تعالى المشركين بإخلاصهم لله في حال الشدة، عند ركوب البحر وتلاطم أمواجه وخوفهم الهلاك، يتركون إذا أندادهم، ويخلصون الدعاء لله وحده لا شريك له، فلما زالت عنهم الشدة، ونجاهم من أخلصوا له الدعاء إلى البر، أشركوا به من لا نجاهم من شدة، ولا أزال عنهم مشقة، فهلا أخلصوا لله الدعاء في حال الرخاء والشدة، واليسر والعسر، ليكونوا مؤمنين به حقا، مستحقين ثوابه، مندفعا عنهم عقابه.
ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم، بالنجاة من البحر، ليكون عاقبته كفر ما آتيناهم، ومقابلة النعمة بالإساءة، وليكملوا تمتعهم في الدنيا، الذي هو كتمتع الأنعام، ليس لهم هم إلا بطونهم وفروجهم.
فسوف يعلمون حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة، شدة الأسف وأليم العقوبة.
[ ص: 1325 ] (67) ثم امتن عليهم بحرمه الآمن، وأنهم أهله في أمن وسعة ورزق، والناس من حولهم يتخطفون ويخافون، أفلا يعبدون الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
أفبالباطل يؤمنون وهو ما هم عليه من الشرك، والأقوال، والأفعال الباطلة.
وبنعمة الله هم
يكفرون فأين ذهبت عقولهم، وانسلخت أحلامهم حيث آثروا الضلال على الهدى، والباطل على الحق، والشقاء على السعادة، وحيث كانوا أظلم الخلق.
(68) فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل إلى الله،
أو كذب بالحق لما جاءه على يد رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذا الظالم العنيد، أمامه جهنم
أليس في جهنم مثوى للكافرين يؤخذ بها منهم الحق، ويخزون بها، وتكون منزلهم الدائم، الذي لا يخرجون منه.
(69)
والذين جاهدوا فينا وهم الذين هاجروا في سبيل الله، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته،
لنهدينهم سبلنا أي: الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون. والله مع المحسنين: بالعون والنصر والهداية.
دل هذا على أن
أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه الله ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن
طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله، بل هو أحد نوعي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين.
تم تفسير سورة العنكبوت بحمد الله وعونه.
[ ص: 1326 ]