ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير [ ص: 1350 ] يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان بالحكمة، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والأحكام، فقد يكون الإنسان عالما، ولا يكون حكيما.
وأما الحكمة، فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع، والعمل الصالح.
ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة، أمره أن يشكره على ما أعطاه، ليبارك له فيه، وليزيده من فضله، وأخبره أن شكر الشاكرين، يعود نفعه عليهم، وأن من كفر فلم يشكر الله، عاد وبال ذلك عليه. والله غني عنه حميد فيما يقدره ويقضيه، على من خالف أمره، فغناه تعالى، من لوازم ذاته، وكونه حميدا في صفات كماله، حميدا في جميل صنعه، من لوازم ذاته، وكل واحد من الوصفين، صفة كمال، واجتماع أحدهما إلى الآخر، زيادة كمال إلى كمال.
واختلف المفسرون، هل كان
لقمان نبيا، أو عبدا صالحا؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة، وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه لابنه، فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال:
(13)
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه : أو قال له قولا به يعظه والوعظ: الأمر، والنهي، المقرون بالترغيب والترهيب، فأمره بالإخلاص، ونهاه عن الشرك، وبين له السبب في ذلك فقال:
إن الشرك لظلم عظيم ووجه كونه عظيما، أنه لا أفظع وأبشع ممن سوى المخلوق من تراب، بمالك الرقاب، وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا، بمالك الأمر كله، وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لم ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم، ودنياهم وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم، إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟! وهل أعظم ظلما ممن
[ ص: 1351 ] خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة، فجعلها في أخس المراتب جعلها عابدة لمن لا يسوي شيئا، فظلم نفسه ظلما كبيرا.
(14) ولما أمر بالقيام بحقه، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال:
ووصينا الإنسان أي: عهدنا إليه، وجعلناه وصية عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه
بوالديه وقلنا له:
اشكر لي بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي.
ولوالديك بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل، فوصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه أن
إلي المصير أي: سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك، وكلفك بهذه الحقوق، فيسألك هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها، فيعاقبك العقاب الوبيل؟
ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم، فقال:
حملته أمه وهنا على وهن أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، من حين يكون نطفة، من الوحم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد، ثم " فصاله في عامين " وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها، أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد، مع شدة الحب، أن يؤكد على ولده، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟
(15)
وإن جاهداك أي: اجتهد والداك
على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما، لأن حق الله مقدم على حق كل أحد، و"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولم يقل: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال:
فلا تطعهما أي: في الشرك، وأما برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال:
وصاحبهما في الدنيا معروفا أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما.
واتبع سبيل من أناب إلي وهم المؤمنون بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون إليه، واتباع سبيلهم أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله، التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى الله، ثم يتبعها سعي
[ ص: 1352 ] البدن، فيما يرضي الله، ويقرب منه.
ثم إلي مرجعكم الطائع والعاصي، والمنيب، وغيره
فأنبئكم بما كنتم تعملون فلا يخفى على الله من أعمالهم خافية.
(16)
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل التي هي أصغر الأشياء وأحقرها،
فتكن في صخرة أي في وسطها
أو في السماوات أو في الأرض في أي جهة من جهاتهما
يأت بها الله لسعة علمه، وتمام خبرته وكمال قدرته، ولهذا قال:
إن الله لطيف خبير أي: لطيف في علمه وخبرته، حتى اطلع على البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار.
والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته، مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح، قل أو كثر.
(17)
يا بني أقم الصلاة حثه عليها، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية،
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه.
والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق، والصبر، وقد صرح به في قوله:
واصبر على ما أصابك ومن كونه فاعلا لما يأمر به، كافا لما ينهى عنه، فتضمن هذا، تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره بذلك، بأمره ونهيه.
ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال:
واصبر على ما أصابك إن ذلك الذي وعظ به
لقمان ابنه
من عزم الأمور أي: من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.
(18)
ولا تصعر خدك للناس أي: لا تمله وتعبس بوجهك الناس، تكبرا عليهم، وتعاظما.
ولا تمش في الأرض مرحا أي: بطرا، فخرا بالنعم، ناسيا المنعم، معجبا بنفسك.
إن الله لا يحب كل مختال في نفسه وهيئته وتعاظمه
فخور بقوله.
(19)
واقصد في مشيك أي: امش متواضعا مستكينا، لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت.
واغضض من صوتك أدبا مع الناس ومع الله،
إن أنكر الأصوات أي أفظعها وأبشعها
لصوت الحمير فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته.
وهذه الوصايا، التي وصى بها
لقمان لابنه، تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم
[ ص: 1353 ] يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها، إن كانت أمرا، وإلى تركها إن كانت نهيا.
وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة، أنها العلم بالأحكام، وحكمها ومناسباتها، فأمره بأصل الدين، وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبين له الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما، ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما، بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك. وأمره بمراقبة الله، وخوفه القدوم عليه، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر، إلا أتى بها.
ونهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر، والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.
وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر، كما قال تعالى:
واستعينوا بالصبر والصلاة فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصا بالحكمة، مشهورا بها. ولهذا من منة الله عليه وعلى سائر عباده، أن قص عليهم من حكمته، ما يكون لهم به أسوة حسنة.