لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنينفقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ
(15-19) سبأ قبيلة معروفة في أداني
اليمن، ومسكنهم بلدة يقال لها
"مأرب" ومن نعم الله ولطفه بالناس عموما، وبالعرب خصوصا أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين، ممن كان يجاور العرب، ويشاهد آثاره، ويتناقل الناس أخباره، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق، وأقرب للموعظة فقال:
لقد كان لسبإ في مسكنهم أي: محلهم الذي يسكنون فيه
آية والآية هنا: ما أدر الله عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم، الذي يقتضي ذلك منهم، أن يعبدوا الله ويشكروه. ثم فسر الآية بقوله:
جنتان عن يمين وشمال وكان لهم واد عظيم، تأتيه سيول كثيرة، وكانوا بنوا سدا محكما، يكون مجمعا للماء، فكانت السيول تأتيه، فيجتمع هناك ماء عظيم، فيفرقونه على بساتينهم، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتغل لهم تلك الجنتان العظيمتان من الثمار ما يكفيهم، ويحصل لهم به الغبطة والسرور، فأمرهم الله بشكر نعمه التي أدرها عليهم من وجوه كثيرة، منها: هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما.
ومنها: أن الله جعل بلدهم بلدة طيبة لحسن هوائها، وقلة وخمها، وحصول الرزق الرغد فيها.
[ ص: 1413 ] ومنها: أن الله تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم ويرحمهم، ولهذا قال:
بلدة طيبة ورب غفور
ومنها: أن الله لما علم احتياجهم في تجاراتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة، - الظاهر أنها: قرى
صنعاء قاله غير واحد من السلف، وقيل: إنها
الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها، بغاية السهولة، من الأمن وعدم الخوف، وتواصل القرى بينهم وبينها، بحيث لا يكون عليهم مشقة، بحمل الزاد والمزاد، ولهذا قال:
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير أي: سيرا مقدرا يعرفونه، ويحكمون عليه، بحيث لا يتيهون عنه ليالي وأياما.
آمنين أي: مطمئنين في السير في تلك الليالي والأيام غير خائفين، وهذا من تمام نعمة الله عليهم، أن أمنهم من الخوف.
فأعرضوا عن المنعم، وعن عبادته، وبطروا النعمة وملوها، حتى إنهم طلبوا وتمنوا، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى، التي كان السير فيها متيسرا.
وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله وبنعمته، فعاقبهم الله تعالى بهذه النعمة، التي أطغتهم، فأبادها عليهم، فأرسل عليها
سيل العرم .
أي: السيل المتوعر، الذي خرب سدهم، وأتلف جناتهم، وخرب بساتينهم، فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة، والأشجار المثمرة، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها، ولهذا قال:
وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل أي: شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا
خمط وأثل وشيء من سدر قليل وهذا كله شجر معروف، وهذا من جنس عملهم، فكما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح، بدلوا تلك النعمة بما ذكر، ولهذا قال:
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور أي: وهل نجازي جزاء العقوبة - بدليل السياق - إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟!
فلما أصابهم ما أصابهم تفرقوا وتمزقوا بعدما كانوا مجتمعين، وجعلهم الله أحاديث يتحدث بهم، وأسمارا للناس، وكان يضرب بهم المثل فيقال: "تفرقوا أيدي
سبأ" فكل أحد يتحدث بما جرى لهم، ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال الله:
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور صبار على المكاره والشدائد، يتحملها لوجه الله، ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة الله تعالى يقر بها، ويعترف، ويثني على من أولاها، ويصرفها في طاعته.
فهذا إذا سمع بقصتهم وما جرى منهم وعليهم، عرف بذلك أن تلك العقوبة،
[ ص: 1414 ] جزاء لكفرهم نعمة الله، وأن من فعل مثلهم، فعل به كما فعل بهم، وأن شكر الله تعالى، حافظ للنعمة، دافع للنقمة، وأن رسل الله، صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاء حق، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.
(20) ثم ذكر أن قوم
سبأ من الذين صدق عليهم إبليس ظنه، حيث قال لربه:
فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وهذا ظن من إبليس، لا يقين، لأنه لا يعلم الغيب، ولم يأته خبر من الله، أنه سيغويهم أجمعين، إلا من استثنى، فهؤلاء وأمثالهم، ممن صدق عليه إبليس ظنه، ودعاهم وأغواهم،
فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ممن لم يكفر بنعمة الله، فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس، ويحتمل أن قصة
سبأ انتهت عند قوله:
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . ثم ابتدأ فقال:
ولقد صدق عليهم أي: على جنس الناس، فتكون الآية عامة في كل من اتبعه.
(21) ثم قال تعالى:
وما كان له أي: لإبليس
عليهم من سلطان أي: تسلط وقهر، وقسر على ما يريده منهم، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت تسليطه وتسويله لبني
آدم. لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أي: ليقوم سوق الامتحان، ويعلم به الصادق من الكاذب، ويعرف من كان إيمانه صحيحا، يثبت عند الامتحان والاختبار، وإلقاء الشبه الشيطانية، ممن إيمانه غير ثابت، يتزلزل بأدنى شبهة، ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده، فالله تعالى جعله امتحانا يمتحن به عباده، ويظهر الخبيث من الطيب.
وربك على كل شيء حفيظ يحفظ العباد، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويحفظ تعالى جزاءها، فيوفيهم إياها كاملة موفرة.