هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب
يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده، بتبيين الحق من الباطل، بما يري عباده من آياته النفسية والآفاقية والقرآنية الدالة على كل مطلوب مقصود، الموضحة للهدى من الضلال، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق، وهذا من أكبر نعمه على عباده، حيث لم يبق الحق مشتبها ولا الصواب ملتبسا، بل نوع الدلالات ووضح الآيات، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر، كانت الدلائل عليها أكثر
[ ص: 1541 ] وأيسر، فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل، بل أكبرها، كثرت الأدلة عليها العقلية والنقلية وتنوعت، وضرب الله لها الأمثال وأكثر لها من الاستدلال، ولهذا ذكرها في هذا الموضع، ونبه على جملة من أدلتها فقال:
فادعوا الله مخلصين له الدين
ولما ذكر أنه يري عباده آياته، نبه على آية عظيمة فقال:
وينزل لكم من السماء رزقا أي: مطرا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم، وذلك يدل على أن النعم كلها منه، فمنه نعم الدين، وهي المسائل الدينية والأدلة عليها، وما يتبع ذلك من العمل بها. والنعم الدنيوية كلها، كالنعم الناشئة عن الغيث، الذي تحيا به البلاد والعباد. وهذا يدل دلالة قاطعة أنه وحده هو المعبود، الذي يتعين إخلاص الدين له، كما أنه -وحده- المنعم.
وما يتذكر بالآيات حين يذكر بها
إلا من ينيب إلى الله تعالى، بالإقبال على محبته وخشيته وطاعته والتضرع إليه، فهذا الذي ينتفع بالآيات، وتصير رحمة في حقه، ويزداد بها بصيرة.
ولما كانت الآيات تثمر التذكر، والتذكر يوجب الإخلاص لله، رتب الأمر على ذلك بالفاء الدالة على السببية فقال:
فادعوا الله مخلصين له الدين وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة،
والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
ولو كره الكافرون لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى:
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون
ثم ذكر من جلاله وكماله ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال:
رفيع الدرجات ذو العرش أي: العلي الأعلى، الذي استوى على العرش واختص به، وارتفعت درجاته ارتفاعا باين به مخلوقاته، وارتفع به قدره، وجلت أوصافه، وتعالت ذاته، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهر، وهو الإخلاص، الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه، ثم ذكر نعمته على عباده
[ ص: 1542 ] بالرسالة والوحي، فقال:
يلقي الروح أي: الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش، فالروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح، فهو تعالى
يلقي الروح من أمره الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم.
على من يشاء من عباده وهم الرسل الذين فضلهم الله واختصهم الله لوحيه ودعوة عباده.
والفائدة في إرسال الرسل، هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وإزالة الشقاوة عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولهذا قال:
لينذر من ألقى الله إليه الوحي
يوم التلاق أي: يخوف العباد بذلك، ويحثهم على الاستعداد له بالأسباب المنجية مما يكون فيه.
وسماه
يوم التلاق لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض، والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم.
يوم هم بارزون أي: ظاهرون على الأرض، قد اجتمعوا في صعيد واحد لا عوج ولا أمت فيه، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.
لا يخفى على الله منهم شيء لا من ذواتهم ولا من أعمالهم، ولا من جزاء تلك الأعمال.
لمن الملك اليوم أي: من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، الذي انقطعت فيه الشركة في الملك، وتقطعت الأسباب، ولم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة. الملك
لله الواحد القهار أي: المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه.
القهار لجميع المخلوقات، الذي دانت له المخلوقات وذلت وخضعت، خصوصا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم، يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه.
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت في الدنيا، من خير وشر، قليل وكثير.
لا ظلم اليوم على أحد، بزيادة في سيئاته، أو نقص من حسناته.
إن الله سريع الحساب أي: لا تستبطئوا ذلك اليوم فإنه آت، وكل آت قريب. وهو أيضا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة، لإحاطة علمه وكمال قدرته.