وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم
يقول تعالى:
وما اختلفتم فيه من شيء من أصول دينكم وفروعه، مما لم تتفقوا عليه
فحكمه إلى الله يرد إلى كتابه، وإلى سنة رسوله، فما حكما به فهو الحق، وما خالف ذلك فباطل.
ذلكم الله ربي أي: فكما أنه تعالى
الرب الخالق الرازق المدبر ، فهو تعالى الحاكم بين عباده بشرعه في جميع أمورهم.
ومفهوم الآية الكريمة، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة، لأن الله تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه، فما اتفقنا عليه، يكفي اتفاق الأمة عليه، لأنها معصومة عن الخطأ، ولا بد أن يكون اتفاقها موافقا لما في كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله:
عليه توكلت أي:
اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار، واثقا
[ ص: 1584 ] به تعالى في الإسعاف بذلك.
وإليه أنيب أي: أتوجه بقلبي وبدني إليه، وإلى طاعته وعبادته.
وهذان الأصلان، كثيرا ما يذكرهما الله في كتابه، لأنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد، ويفوته الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما، كقوله تعالى:
إياك نعبد وإياك نستعين وقوله:
فاعبده وتوكل عليه .
فاطر السماوات والأرض أي: خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته.
جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وتنتشر منكم الذرية، ويحصل لكم من النفع ما يحصل.
ومن الأنعام أزواجا أي: ومن جميع أصنافها نوعين، ذكرا وأنثى، لتبقى وتنمو لمنافعكم الكثيرة، ولهذا عداها باللام الدالة على التعليل، أي: جعل ذلك لأجلكم، ولأجل النعمة عليكم، ولهذا قال:
يذرؤكم فيه أي: يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم، بسبب أن جعل لكم من أنفسكم، وجعل لكم من الأنعام أزواجا.
ليس كمثله شيء أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.
وهو السميع لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.
البصير يرى دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة.
وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المشابهة في قوله:
ليس كمثله شيء وعلى المعطلة في قوله:
وهو السميع البصير
وقوله:
له مقاليد السماوات والأرض أي: له ملك السماوات والأرض، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة. فكل الخلق مفتقرون إلى الله، في جلب مصالحهم، ودفع المضار عنهم، في كل الأحوال، ليس بيد أحد من الأمر شيء.
والله تعالى هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع الشر إلا هو، و
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده
ولهذا قال هنا:
يبسط الرزق لمن [ ص: 1585 ] يشاء أي: يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء،
ويقدر أي: يضيق على من يشاء، حتى يكون بقدر حاجته، لا يزيد عنها، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته، فلهذا قال:
إنه بكل شيء عليم فيعلم أحوال عباده، فيعطي كلا ما يليق بحكمته وتقتضيه مشيئته.