ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم
يقول تعالى:
ولما ضرب ابن مريم مثلا أي: نهي عن عبادته، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد.
إذا قومك المكذبون لك
منه أي: من أجل هذا المثل المضروب،
يصدون أي: يستلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم، وأفلجوا.
وقالوا أآلهتنا خير أم هو يعني:
عيسى، حيث نهي عن عبادة الجميع، وشورك بينهم بالوعيد على من عبدهم، ونزل أيضا قوله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون
ووجه حجتهم الظالمة، أنهم قالوا: قد تقرر عندنا وعندك يا محمد، أن
عيسى من عباد الله المقربين، الذين لهم العاقبة الحسنة، فلم سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلولا أن حجتك باطلة لم تتناقض.
ولم قلت:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وهذا اللفظ بزعمهم، يعم الأصنام،
وعيسى، فهل هذا إلا تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطلانها، هذا أنهى ما يقررون به هذه الشبهة الذي فرحوا بها واستبشروا، وجعلوا يصدون ويتباشرون.
وهي -ولله الحمد- من
[ ص: 1616 ] أضعف الشبه وأبطلها، فإن تسوية الله بين النهي عن عبادة
المسيح، وبين النهي عن عبادة الأصنام، لأن العبادة حق لله تعالى، لا يستحقها أحد من الخلق، لا الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون، ولا من سواهم من الخلق، فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة عيسى وغيره؟
وليس تفضيل
عيسى عليه السلام، وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا الموضع، وإنما هو كما قال تعالى:
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه
بالنبوة والحكمة والعلم والعمل،
وجعلناه مثلا لبني إسرائيل يعرفون به قدرة الله تعالى على إيجاده من دون أب.
وأما قوله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون فالجواب عنها من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن قوله:
إنكم وما تعبدون من دون الله أن " ما " اسم لما لا يعقل، لا يدخل فيه المسيح ونحوه.
الثاني: أن الخطاب للمشركين، الذين
بمكة وما حولها، وهم إنما يعبدون أصناما وأوثانا ولا يعبدون
المسيح.
الثالث: أن الله قال بعد هذه الآية:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فلا شك أن
عيسى وغيره من الأنبياء والأولياء، داخلون في هذه الآية.
ثم قال تعالى:
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلا من جنسكم، تتمكنون من الأخذ عنهم.
وإنه لعلم للساعة أي: وإن
عيسى عليه السلام، لدليل على الساعة، وأن القادر على إيجاده من أم بلا أب، قادر على بعث الموتى من قبورهم، أو وإن
عيسى عليه السلام، سينزل في آخر الزمان، ويكون نزوله علامة من علامات الساعة
فلا تمترن بها أي: لا تشكن في قيام الساعة، فإن الشك فيها كفر.
واتبعون بامتثال ما أمرتكم، واجتناب ما نهيتكم،
هذا صراط مستقيم موصل إلى الله عز وجل،
ولا يصدنكم الشيطان عما أمركم الله به، فإن الشيطان
لكم عدو حريص على إغوائكم، باذل جهده في ذلك.
ولما جاء عيسى بالبينات الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم
[ ص: 1617 ] به، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من الآيات.
قال لبني إسرائيل:
قد جئتكم بالحكمة النبوة والعلم، بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي.
ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه أي: أبين لكم صوابه وجوابه، فيزول عنكم بذلك اللبس، فجاء عليه السلام مكملا ومتمما لشريعة
موسى عليه السلام، ولأحكام التوراة. وأتى ببعض التسهيلات الموجبة للانقياد له، وقبول ما جاءهم به.
فاتقوا الله وأطيعون أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وآمنوا بي وصدقوني وأطيعون.
إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ففيه
الإقرار بتوحيد الربوبية، بأن الله هو المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة،
والإقرار بتوحيد العبودية، بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخبار
عيسى عليه السلام أنه عبد من عباد الله، ليس كما قال فيه النصارى: "إنه ابن الله أو ثالث ثلاثة" والإخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم، موصل إلى الله وإلى جنته.
فلما جاءهم عيسى عليه السلام بهذا ( اختلف الأحزاب ) المتحزبون على التكذيب
من بينهم كل قال
بعيسى عليه السلام مقالة باطلة، ورد ما جاء به، إلا من هدى الله من المؤمنين، الذين شهدوا له بالرسالة، وصدقوا بكل ما جاء به، وقالوا: إنه عبد الله ورسوله.
فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم أي: ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك اليوم".