كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله، وأن الآيات لا تنفع فيهم، ولا تجدي عليهم شيئا، أنذرهم وخوفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل، وكيف أهلكهم الله وأحل بهم عقابه.
فذكر قوم
نوح، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا:
لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا
ولم يزل
نوح يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وطغيانا، وقدحا في نبيهم، ولهذا قال هنا:
فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل، وأن ما جاء به
نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا فإن ما جاء به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى الهدى والنور والرشد، وما هم عليه جهل وضلال مبين، وقوله:
وازدجر أي: زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى، فلم
[ ص: 1745 ] يكفهم -قبحهم الله- عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه، وهكذا جميع أعداء الرسل، هذه حالهم مع أنبيائهم.
فعند ذلك دعا
نوح ربه فقال:
أني مغلوب لا قدرة لي على الانتصار منهم، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر، ولا قدرة لهم على مقاومة قومهم،
فانتصر اللهم لي منهم، وقال في الآية الأخرى:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا الآيات .
فأجاب الله سؤاله، فانتصر له من قومه، قال تعالى:
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر أي: كثير جدا متتابع .
وفجرنا الأرض عيونا فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلا عن كونه منبعا للماء، لأنه موضع النار.
فالتقى الماء أي: ماء السماء والأرض
على أمر من الله له بذلك،
قد قدر أي: قد كتبه الله في الأزل وقضاه، عقوبة لهؤلاء الظالمين الطاغين .
وحملناه على ذات ألواح ودسر أي: ونجينا عبدنا نوحا على السفينة ذات الألواح والدسر أي: المسامير التي قد سمرت بها ألواحها وشد بها أسرها .
تجري بأعيننا أي: تجري
بنوح ومن آمن معه، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله، وحفظ منه لها عن الغرق ونظر ، وكلاءة منه تعالى، وهو نعم الحافظ الوكيل،
جزاء لمن كان كفر أي: فعلنا
بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم، واستمر على أمر الله، فلم يرده عنه راد، ولا صده عن ذلك صاد، كما قال تعالى عنه في الآية الأخرى:
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك الآية.
ويحتمل أن المراد: أنا أهلكنا قوم
نوح، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف .
[ ص: 1746 ] ولقد تركناها آية فهل من مدكر أي: ولقد تركنا قصة
نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون، على أن
من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها، وأن أصل صنعتها تعليم من الله لرسوله
نوح عليه السلام، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدل ذلك على رحمته بخلقه وعنايته، وكمال قدرته، وبديع صنعته،
فهل من مدكر ؟ أي: فهل من متذكر للآيات، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها، فإنها في غاية البيان واليسر؟
فكيف كان عذابي ونذر أي: فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله الأليم وإنذاره الذي لا يبقي لأحد عليه حجة.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيعان عليه ؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله:
فهل من مدكر .