[ ص: 1762 ] تفسير سورة الواقعة
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
يخبر تعالى بحال الواقعة التي لا بد من وقوعها، وهي القيامة التي
ليس لوقعتها كاذبة أي: لا شك فيها، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية، ودلت عليها حكمته تعالى.
خافضة رافعة أي: خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين، أو خفضت بصوتها فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد.
إذا رجت الأرض رجا أي: حركت واضطربت.
وبست الجبال بسا أي: فتتت.
فكانت هباء منبثا فأصبحت الأرض ليس عليها جبل ولا معلم، قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
وكنتم أيها الخلق
أزواجا ثلاثة أي: انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة.
ثم فصل أحوال الأزواج الثلاثة، فقال:
فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة تعظيم لشأنهم، وتفخيم لأحوالهم.
وأصحاب المشأمة أي: الشمال،
ما أصحاب المشأمة تهويل لحالهم.
[ ص: 1763 ] والسابقون السابقون أولئك المقربون أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات.
أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها.
وهؤلاء المذكورون
ثلة من الأولين أي: جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة وغيرهم.
وقليل من الآخرين . وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين.
والمقربون هم خواص الخلق،
على سرر موضونة أي: مرمولة بالذهب والفضة، واللؤلؤ، والجوهر، وغير ذلك من الحلي الزينة، التي لا يعلمها إلا الله تعالى.
متكئين عليها أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار
متقابلين وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وتقابلها بالمحبة، وحسن أدبهم.
يطوف عليهم ولدان مخلدون أي: يدور على أهل الجنة لخدمتهم وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء،
كأنهم لؤلؤ مكنون أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم.
ويدورون عليهم بآنية شرابهم
بأكواب وهي التي لا عرى لها،
وأباريق الأواني التي لها عرى،
وكأس من معين أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها.
لا يصدعون عنها أي: لا تصدعهم رءوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها.
ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تنزف عقولهم، ولا تذهب أحلامهم منها، كما يكون لخمر الدنيا. والحاصل: أن
كل ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا، لا يوجد في الجنة فيه آفة، كما قال تعالى:
فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وذكر هنا خمر الجنة، ونفى عنها كل آفة توجد في الدنيا.
وفاكهة مما يتخيرون أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته
[ ص: 1764 ] نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجني اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.
ولحم طير مما يشتهون أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، إن شاءوا مشويا، أو طبيخا، أو غير ذلك.
وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعين: حسان الأعين ضخامها وحسن عين الأنثى، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها.
كأمثال اللؤلؤ المكنون أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن بوجه ، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر القلب ويروق الناظر.
وذلك النعيم المعد لهم
جزاء بما كانوا يعملون فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم.
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاما يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاما يؤثم صاحبه.
إلا قيلا سلاما سلاما أي: إلا كلاما طيبا، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للقلوب وأسلمه من كل لغو وإثم، نسأل الله من فضله.