صفحة جزء
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون

يقول تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته.

وأنزلنا معهم الكتاب وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، والميزان وهو العدل في الأقوال والأفعال، والدين الذي جاءت به الرسل، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق، وفي الجنايات والقصاص والحدود والمواريث وغير ذلك ، وذلك ليقوم الناس بالقسط قياما بدين الله، وتحصيلا لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها، وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن [ ص: 1785 ] اختلفت صور العدل، بحسب الأزمنة والأحوال، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد من آلات الحرب، كالسلاح والدروع وغير ذلك.

ومنافع للناس وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف، والأواني وآلات الحرث، حتى إنه قل أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد.

وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب أي: ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره وينصر رسله في حالة الغيب، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها، لأنه حينئذ يكون ضروريا.

إن الله قوي عزيز أي: لا يعجزه شيء، ولا يفوته هارب، ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد الذي منه الآلات القوية، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب، وقرن تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله.

ولما ذكر نبوة الأنبياء عموما، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما، فقال: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب أي: الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام، وكذلك الكتب كلها نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين، فمنهم أي: ممن أرسلنا إليهم الرسل مهتد بدعوتهم، منقاد لأمرهم، مسترشد بهداهم.

وكثير منهم فاسقون أي: خارجون عن طاعة الله وطاعة رسله كما قال تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

ثم قفينا أي: أتبعنا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم خص الله عيسى عليه السلام; لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام، وآتيناه الإنجيل الذي هو من كتب الله الفاضلة، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة كما قال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا [ ص: 1786 ] اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون الآيات.

ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام.

ورهبانية ابتدعوها والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله تعالى، ومع ذلك فما رعوها حق رعايتها أي: ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم. فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم.

ومنهم من هو مستقيم على أمر الله، ولهذا قال: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم أي: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمانهم بعيسى، كل أعطاه الله على حسب إيمانه وكثير منهم فاسقون

التالي السابق


الخدمات العلمية