فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين
أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم فإن علي جزاءهم، ولا تستعجل لهم، فـ
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال، ليغتروا ويستمروا على ما يضرهم، وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين قوي، يبلغ من ضررهم وعقوبتهم كل مبلغ .
[ ص: 1871 ] أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أي: ليس لنفورهم عنك، وعدم تصديقهم لك سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، وتدعوهم إلى الله، لمحض مصلحتهم، من غير أن تطلبهم من أموالهم مغرما يثقل عليهم.
أم عندهم الغيب فهم يكتبون ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا فيها أنهم على حق، وأن لهم الثواب عند الله، فهذا أمر ما كان، وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم.
فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، والتحمل لما يصدر منهم، والاستمرار على دعوتهم، ولهذا قال:
فاصبر لحكم ربك أي: لما حكم به شرعا وقدرا، فالحكم القدري، يصبر على المؤذي منه، ولا يتلقى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد التام لأمره.
وقوله:
ولا تكن كصاحب الحوت وهو
يونس بن متى، عليه الصلاة والسلام أي: ولا تشابهه في الحال، التي أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه، الصبر المطلوب منه، وذهابه مغاضبا لربه، حتى ركب في البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم وقوله
إذ نادى وهو مكظوم أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى وهو مغتم مهتم فقال
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، ولهذا قال هنا:
لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية
وهو مذموم ولكن الله تغمده برحمته فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى، ولهذا قال:
فاجتباه ربه أي: اختاره واصطفاه ونقاه من كل كدر،.
فجعله من الصالحين أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، وأحوالهم فامتثل نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، أمر الله، فصبر لحكم ربه صبرا لا يدركه فيه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة ، والعاقبة للمتقين ، ولم يبلغ أعداؤه فيه إلا ما يسوءهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم أي: يصيبوه
[ ص: 1872 ] بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعلي، والله حافظه وناصره، وأما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالا بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة "مجنون" وتارة "شاعر" وتارة "ساحر ".
قال تعالى
وما هو إلا ذكر للعالمين أي: وما هذا القرآن العظيم، والذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، والحمد لله.
تم تفسير سورة القلم، والحمد لله رب العالمين.