كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم
يقول تعالى:
كلا إنها تذكرة أي: حقا إن هذه الموعظة تذكرة من الله، يذكر بها عباده، ويبين لهم في كتابه ما يحتاجون إليه، ويبين الرشد من الغي، فإذا تبين ذلك
فمن شاء ذكره أي: عمل به، كقوله تعالى:
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها، فقال:
في صحف مكرمة مرفوعة القدر والرتبة
مطهرة من الآفاق وعن أن تنالها أيدي الشياطين أو يسترقوها، بل هي
بأيدي سفرة وهم الملائكة الذين هم السفراء بين الله وبين عباده،
كرام أي: كثيري الخير والبركة،
بررة قلوبهم وأعمالهم.
وذلك كله حفظ من الله لكتابه، أن
[ ص: 1938 ] جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلا وهذا مما يوجب الإيمان به وتلقيه بالقبول، ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفورا، ولهذا قال تعالى:
قتل الإنسان ما أكفره لنعمة الله وما أشد معاندته للحق بعدما تبين، وهو ما هو؟ هو من أضعف الأشياء، خلقه الله من ماء مهين، ثم قدر خلقه، وسواه بشرا سويا، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة.
ثم السبيل يسره أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، وبينه وامتحنه بالأمر والنهي،
ثم أماته فأقبره أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض،
ثم إذا شاء أنشره أي: بعثه بعد موته للجزاء، فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف، لم يشاركه فيه مشارك، وهو -مع هذا- لا يقوم بما أمره الله، ولم يقض ما فرضه عليه، بل لا يزال مقصرا تحت الطلب.
ثم أرشده الله إلى النظر والتفكر في طعامه، وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات عديدة، ويسره له فقال:
فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا أي: أنزلنا المطر على الأرض بكثرة.
ثم شققنا الأرض للنبات
شقا فأنبتنا فيها أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة، والأقوات الشهية
حبا وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها،
وعنبا وقضبا وهو القت،
وزيتونا ونخلا وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها.
وحدائق غلبا أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة،
وفاكهة وأبا الفاكهة: ما يتفكه فيه الإنسان، من تين وعنب وخوخ ورمان، وغير ذلك.
والأب: ما تأكله البهائم والأنعام، ولهذا قال:
متاعا لكم ولأنعامكم التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره.