تفسير سورة البروج
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ والسماء ذات البروج أي: ذات المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر، والكواكب المنتظمة في سيرها، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته، وسعة علمه وحكمته.
واليوم الموعود وهو
[ ص: 1954 ] يوم القيامة، الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه، ويضم فيه أولهم وآخرهم، وقاصيهم ودانيهم، الذي لا يمكن أن يتغير، ولا يخلف الله الميعاد.
وشاهد ومشهود وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي: مبصر ومبصر، وحاضر ومحضور، وراء ومرئي.
والمقسم عليه، ما تضمنه هذا القسم من آيات الله الباهرة، وحكمه الظاهرة، ورحمته الواسعة.
وقيل: إن المقسم عليه قوله
قتل أصحاب الأخدود وهذا دعاء عليهم بالهلاك.
و
الأخدود الحفر التي تحفر في الأرض. وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قوما كافرين، ولديهم قوم مؤمنون، فراودوهم على الدخول في دينهم، فامتنع المؤمنون من ذلك، فشق الكافرون أخدودا في الأرض ، وقذفوا فيها النار، وقعدوا حولها، وفتنوا المؤمنين، وعرضوهم عليها، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال:
قتل أصحاب الأخدود ثم فسر الأخدود بقوله:
النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب، لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها، ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب، الذي تنفطر منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا حالة يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد أي: الذي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في أقواله وأفعاله وأوصافه.
الذي له ملك السماوات والأرض خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بما يشاء ،
والله على كل شيء شهيد علما وسمعا وبصرا، أفلا خاف هؤلاء المتمردون عليه، أن يأخذهم العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم مماليك لله ، ليس لأحد على أحد سلطة، من دون إذن المالك؟ أو خفي عليهم
[ ص: 1955 ] أن الله محيط بأعمالهم، مجازيهم على فعالهم ؟ كلا إن الكافر في غرور، والجاهل في عمى وضلال عن سواء السبيل.
ثم وعدهم، وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال:
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق أي: العذاب الشديد المحرق. قال الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود، هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته، وهو يدعوهم إلى التوبة.
ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال:
إن الذين آمنوا بقلوبهم
وعملوا الصالحات بجوارحهم
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير الذي حصل لهم الفوز برضا الله ودار كرامته.
إن بطش ربك لشديد أي: إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام لقوية شديدة، وهو للظالمين بالمرصاد كما قال الله تعالى:
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إنه هو يبدئ ويعيد أي: هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته، فلا يشاركه في ذلك مشارك،
وهو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب.
الودود الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال، والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه، التابعة لذلك، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب، ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها، وإن لم يكن غيرها تبعا لها، كانت عذابا على أهلها، وهو تعالى الودود، الواد لأحبابه، كما قال تعالى:
يحبهم ويحبونه والمودة هي المحبة الصافية، وفي هذا سر لطيف، حيث قرن
الودود بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال: بل تغفر ذنوبهم، ولا
[ ص: 1956 ] يرجع إليهم الود، كما قاله بعض الغالطين.
بل
الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب، من رجل له راحلة، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه، فأضلها في أرض فلاة مهلكة، فأيس منها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو على تلك الحال، إذا راحلته على رأسه، فأخذ بخطامها، فالله أعظم فرحا بتوبة العبد من هذا براحلته، وهذا أعظم فرح يقدر.
فلله الحمد والثناء، وصفو الوداد، ما أعظم بره، وأكثر خيره، وأغزر إحسانه، وأوسع امتنانه"
ذو العرش المجيد أي: صاحب العرش العظيم، الذي من عظمته، أنه وسع السماوات والأرض والكرسي، فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، بالنسبة لسائر الأرض، وخص الله العرش بالذكر، لعظمته، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا على قراءة الجر، يكون
المجيد نعتا للعرش، وأما على قراءة الرفع، فإنه يكون نعتا لله ، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها.
فعال لما يريد أي: مهما أراد شيئا فعله، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وليس أحد فعالا لما يريد إلا الله.
فإن المخلوقات، ولو أرادت شيئا، فإنه لا بد لإرادتها من معاون وممانع، والله لا معاون لإرادته، ولا ممانع له مما أراد.
ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله، فقال:
هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود وكيف كذبوا المرسلين، فجعلهم الله من المهلكين.
بل الذين كفروا في تكذيب أي: لا يزالون مستمرين على التكذيب والعناد، لا تنفع فيهم الآيات، ولا تجدي لديهم العظات.
والله من ورائهم محيط أي: قد أحاط بهم علما وقدرة، كقوله:
إن [ ص: 1957 ] ربك لبالمرصاد ففيه الوعيد الشديد للكافرين، من عقوبة من هم في قبضته، وتحت تدبيره.
بل هو قرآن مجيد أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الخير والعلم.
في لوح محفوظ من التغيير والزيادة والنقص، ومحفوظ من الشياطين، وهو: اللوح المحفوظ الذي قد أثبت الله فيه كل شيء.
وهذا يدل على جلالة القرآن وجزالته، ورفعة قدره عند الله تعالى، والله أعلم.
تم تفسيرها.
تم تفسير السورة.