إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين *
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم *
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم *
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم *
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
(33-37) يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه، فأخبر أنه
اصطفى آدم، أي: اختاره على سائر المخلوقات، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه جنته، وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات، ولهذا فضل بنيه، فقال تعالى:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .
واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الأرض حين عبدت الأوثان، ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الأوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه، وأغرق الله أهل الأرض بدعوته، ونجاه ومن معه في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين، وترك عليه ثناء يذكر في جميع الأحيان والأزمان.
واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته، وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ودعا إلى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، ويدخل في آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بعثوا من بعده لأنهم من ذريته، وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين، ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره، وفاق صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين، فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم.
واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران، أو والد موسى بن عمران عليه السلام، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم، فلهذا قال تعالى: ( ذرية بعضها من بعض ).
أي: حصل التناسب والتشابه بينهم في
[ ص: 2044 ] الخلق والأخلاق الجميلة، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار
ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ( والله سميع عليم ) يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم، وأن لا نزال نزري أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة، وهذا أيضا من لطفه بهم، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين، والتنويه بشرفهم، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا.
ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة
ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها، فقال: ( إذ قالت امرأة عمران ) أي: والدة مريم لما حملت: ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) أي: جعلت ما في بطني خالصا لوجهك، محررا لخدمتك وخدمة بيتك ( فتقبل مني ) هذا العمل المبارك ( إنك أنت السميع العليم ) تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها.
( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ) كأنها تشوفت أن يكون ذكرا ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا، ففي كلامها [نوع] عذر من ربها، فقال الله: ( والله أعلم بما وضعت ) أي: لا يحتاج إلى إعلامها، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي ( وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم ) فيه دلالة على تفضيل الذكر على الأنثى، وعلى التسمية وقت الولادة، وعلى أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من الشيطان الرجيم.
( فتقبلها ربها بقبول حسن ) أي: جعلها نذيرة مقبولة، وأجارها وذريتها من الشيطان ( وأنبتها نباتا حسنا ) أي: نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلاقها؛ لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام ( وكفلها ) إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها فكان ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) أي: من غير كسب ولا تعب، بل رزق ساقه الله إليها، وكرامة أكرمها الله بها، فيقول لها زكريا: ( أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) فضلا وإحسانا ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا *
ويرزقه من حيث لا يحتسب وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك، خلافا لمن نفى ذلك، فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب طمعت نفسه بالولد؛ فلهذا قال تعالى:
[ ص: 2045 ] هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء *
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين *
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء *
قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار .
(38-41) أي:
دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة، أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم. فاستجاب له دعاءه.
وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملائكة ( أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله ) أي: بعيسى عليه السلام؛ لأنه كان بكلمة الله ( وسيدا ) أي: يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع إليه في الأمور ( وحصورا ) أي: ممنوعا من إتيان النساء، فليس في قلبه لهن شهوة، اشتغالا بخدمة ربه وطاعته ( ونبيا من الصالحين ) فأي بشارة أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة بوجوده، وبكمال صفاته، وبكونه نبيا من الصالحين، فقال زكريا من شدة فرحه: ( رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) وكل واحد من الأمرين مانع من وجود الولد، فكيف وقد اجتمعا، فأخبره الله تعالى أن هذا خارق للعادة، فقال: ( كذلك الله يفعل ما يشاء ) فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد بالأسباب التي منها التناسل فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل؛ لأنه لا يستعصي عليه شيء، فقال زكريا عليه السلام استعجالا لهذا الأمر، وليحصل له كمال الطمأنينة: ( رب اجعل لي آية ) أي: علامة على وجود الولد؛ قال: ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) أي: ينحبس لسانك عن كلامهم من غير آفة ولا سوء، فلا تقدر إلا على الإشارة والرمز.
وهذا آية عظيمة أن لا تقدر على الكلام، وفيه مناسبة عجيبة؛ وهي أنه كما يمنع نفوذ الأسباب مع وجودها فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن الأسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره، فامتنع من الكلام ثلاثة أيام، وأمره الله أن يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والإبكار، حتى إذا خرج على قومه من المحراب
فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا أي: أول النهار وآخره.
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين *
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين *
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون .
(42-44)
ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت: ( يا مريم إن الله اصطفاك ) أي: اختارك ( وطهرك ) من الآفات المنقصة ( واصطفاك على نساء العالمين ) الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها أو مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف الاصطفاء المذكور، فلما
[ ص: 2046 ] أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة: ( يا مريم اقنتي لربك )
( اقنتي لربك ) القنوت: دوام الطاعة في خضوع وخشوع، ( واسجدي واركعي مع الراكعين ) خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله، ففعلت مريم ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة، ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي.
قال: ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم ) أي: عندهم ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أخبرتهم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى:
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر الآيات.
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين *
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين *
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين *
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون *
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين *
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين *
ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم .
(45-58) يخبر تعالى أن
الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله؛ لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الزكية من ذلك الملك
[ ص: 2047 ] الزكي، فأنشأ الله منها تلك الروح الزكية، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية، فلهذا سمي روح الله ( وجيها في الدنيا والآخرة ) أي: له الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين، ويظهر فضله على أكثر العالمين، فلهذا كان من المقربين إلى الله، أقرب الخلق إلى ربهم، بل هو عليه السلام من سادات المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين *
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون *
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل *
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين *
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون *
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم *
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
( ويكلم الناس في المهد وكهلا ) وهذا غير التكليم المعتاد، بل المراد
يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم، وهو تكليم المرسلين، ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم، وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون، وتكون حجة على المعاندين، أنه رسول رب العالمين، وأنه عبد الله، وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به ( ومن الصالحين ) أي: يمن عليه بالصلاح، من من عليهم، ويدخله في جملتهم، وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام.
( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) والولد في العادة لا يكون إلا من مس البشر، وهذا استغراب منها، لا شك في قدرة الله تعالى: ( قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة، خلقه من يقول لكل أمر أراده: كن فيكون، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن.
ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، فقال: ( ويعلمه الكتاب ) يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب، فيكون ذكر التوراة والإنجيل تخصيصا لهما، لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على الأحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم؛ لذلك يدخل فيه تعليم ألفاظه ومعانيه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ( ويعلمه الكتاب ) أي: الكتابة؛ لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق *
خلق الإنسان من علق *
اقرأ وربك الأكرم *
الذي علم بالقلم .
والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع، ووضع الأشياء مواضعها، فيكون ذلك امتنانا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة، وهذا هو الكمال للإنسان في نفسه.
ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل، فقال: ( ورسولا إلى بني إسرائيل )
فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله، وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال: ( أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين ) طيرا، أي: أصوره على شكل الطير ( فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) أي: طيرا له روح تطير بإذن الله ( وأبرئ الأكمه ) وهو الذي يولد أعمى ( والأبرص ) بإذن الله
[ ص: 2048 ] ( وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) وأي آية أعظم من جعل الجماد حيوانا، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان.
( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) أي: أتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه السلام، وعلامة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين، يخبر بالصدق، ويأمر بالعدل من غير تخالف ولا تناقض، بخلاف من ادعى دعوى كاذبة، خصوصا أعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة، فالكاذب فيها لا بد أن يظهر لكل أحد كذب صاحبها وتناقضه ومخالفته لأخبار الصادقين وموافقته لأخبار الكاذبين، هذا موجب السنن الماضية والحكمة الإلهية والرحمة الربانية بعباده؛ إذ لا يشتبه الصادق بالكاذب في دعوى النبوة أبدا، بخلاف بعض الأمور الجزئية؛ فإنه قد يشتبه فيها الصادق بالكاذب، وأما النبوة فإنه يترتب عليها هداية الخلق أو ضلالهم وسعادتهم وشقاؤهم، ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق، والكاذب فيها من أخس الخلق وأكذبهم وأظلمهم، فحكمة الله ورحمته بعباده أن يكون بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل، ثم أخبر عيسى عليه السلام أن شريعة الإنجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال: ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل بل كان متمما لها ومقررا ( وجئتكم بآية من ربكم ) تدل على صدقي ووجوب اتباعي، وهي ما تقدم من الآيات، والمقصود من ذلك كله قوله: ( فاتقوا الله ) بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني؛ فإن طاعة الرسول طاعة لله.
( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) استدل
بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الإلهية الذي ينكره المشركون، فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة، فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله، وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق، كما قال:
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وقال تعالى:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته إلى قوله
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وقوله: ( هذا ) أي: عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله ( صراط مستقيم ) موصل إلى الله وإلى جنته، وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم.
( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) أي: رأى منهم عدم الانقياد له، وقالوا: هذا سحر مبين، وهموا بقتله وسعوا في ذلك ( قال من أنصاري إلى الله ) من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله ( قال الحواريون ) وهم الأنصار ( نحن أنصار الله ) أي: انتدبوا معه وقاموا بذلك.
وقالوا: ( آمنا بالله ) ( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي: الشهادة النافعة، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك، فلما قاموا مع عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، فلهذا قال تعالى هنا: ( ومكروا ) أي: الكفار بإرادة قتل نبي الله وإطفاء نوره
[ ص: 2049 ] ( ومكر الله ) بهم جزاء لهم على مكرهم ( والله خير الماكرين ) رد الله كيدهم في نحورهم فانقلبوا خاسرين.
( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه، وألقي شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال الله:
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة بالقبول والإيمان والتسليم، وكان الله عزيزا قويا قاهرا، ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلام، كما قال تعالى:
وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين حكيم يضع الأشياء مواضعها، وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل، فوقعوا في الشبه كما قال تعالى:
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ثم قال تعالى: ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) وتقدم أن الله أيد المؤمنين منهم على الكافرين، ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود، حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة، فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يحصل في بعض الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين، حكمة من الله وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ( ثم إلي مرجعكم ) أي: مصير الخلائق كلها ( فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) كل يدعي أن الحق معه وأنه المصيب وغيره مخطئ، وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان.
ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل، فقال: ( فأما الذين كفروا ) أي: بالله وآياته ورسله ( فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ) أما عذاب الدنيا فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل، وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الآخرة، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار ( وما لهم من ناصرين ) ينصرونهم من عذاب الله، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه، ولا أصدقائهم وأقربائهم، ولا أنفسهم ينصرون.
( وأما الذين آمنوا ) بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما أمر الله بالإيمان به ( وعملوا الصالحات ) القلبية والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون، وقصدوا بها رضا رب العالمين ( فيوفيهم أجورهم ) دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه ( والله لا يحب الظالمين ) بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه.
( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) وهذا
منة عظيمة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، حيث أنزل عليهم هذا الذكر الحكيم، المحكم المتقن، المفصل للأحكام والحلال والحرام وإخبار الأنبياء الأقدمين، وما أجرى الله على أيديهم من
[ ص: 2050 ] الآيات البينات والمعجزات الباهرات، فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الأخبار والأحكام، فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد، ثم قال تعالى:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون *
الحق من ربك فلا تكن من الممترين .
(59-60) يخبر تعالى محتجا على
النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق، بغير برهان ولا شبهة، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة؛ لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته، فهو على نقيض قولهم أدل، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى، فإن صح ادعاء البنوة والإلهية في المسيح، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، فلهذا قال تعالى: ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك ) أي: هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلام هو الحق الذي في أعلى رتب الصدق، لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولأمتك أن قص عليكم ما قص من أخبار الأنبياء عليهم السلام. ( فلا تكن من الممترين ) أي: الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك، وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه؛ لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى
فماذا بعد الحق إلا الضلال وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه.
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين *
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم *
فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .
(61-63) أي: ( فمن ) جادلك ( حاجك ) في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية، بل رفعه فوق منزلته ( من بعد ما جاءك من العلم ) بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو؛ لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله،
[ ص: 2051 ] فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا، وعلموا أنهم إن عنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه، وهذا غاية الفساد والعناد، فلهذا قال تعالى:
( فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ) فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة. وأخبر تعالى ( إن هذا ) الذي قصه الله على عباده هو ( القصص الحق ) وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل ( وما من إله إلا الله ) فهو
المألوه المعبود حقا الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا يستحق غيره مثقال ذرة من العبادة ( وإن الله لهو العزيز ) الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء ( الحكيم ) الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة التامة في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل.