وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون
اعلم أن هذه السورة الكريمة، قد اشتملت على تقرير التوحيد، بكل دليل عقلي ونقلي، بل كادت أن تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بالله المكذبين لرسوله، فهذه الآيات، ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى، وينقمع به الشرك.
(13) فذكر أن ( له ) تعالى
ما سكن في الليل والنهار وذلك هو المخلوقات كلها، من آدميها، وجنها، وملائكتها، وحيواناتها وجماداتها، فالكل خلق مدبرون، وعبيد مسخرون لربهم العظيم، القاهر المالك، فهل يصح في عقل ونقل، أن يعبد من هؤلاء المماليك، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟ ويترك الإخلاص للخالق، المدبر المالك، الضار النافع؟! أم العقول السليمة، والفطر المستقيمة، تدعو إلى إخلاص العبادة، والحب، والخوف، والرجاء لله رب العالمين؟!.
السميع لجميع الأصوات، على اختلاف اللغات، بتفنن الحاجات.
العليم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، المطلع على الظواهر والبواطن؟!.
(14)
قل لهؤلاء المشركين بالله:
أغير الله أتخذ وليا من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني، وينصرني؟!.
فلا أتخذ من دونه تعالى وليا، لأنه فاطر السماوات والأرض، أي: خالقهما ومدبرهما.
وهو يطعم ولا يطعم أي: وهو الرزاق لجميع الخلق، من غير حاجة منه تعالى إليهم، فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق، الغني الحميد؟
قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي.
[ ص: 465 ] ولا تكونن من المشركين أي: ونهيت أيضا، عن أن أكون من المشركين، لا في اعتقادهم، ولا في مجالستهم، ولا في الاجتماع بهم، فهذا أفرض الفروض علي، وأوجب الواجبات.
(15)
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار، وسخط الجبار.
(16) وذلك اليوم هو اليوم الذي يخاف عذابه، ويحذر عقابه; لأنه من صرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم، ومن نجا فيه فهو الفائز حقا، كما أن من لم ينج منه فهو الهالك الشقي.
(17) ومن أدلة توحيده، أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء، وجلب الخير والسراء. ولهذا قال:
وإن يمسسك الله بضر من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غم، أو هم أو نحوه.
فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير فإذا كان وحده النافع الضار، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية.
(18)
وهو القاهر فوق عباده فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته، وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبرون مقهورون، فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا، كان هو المستحق للعبادة.
وهو الحكيم فيما أمر به ونهى، وأثاب، وعاقب، وفيما خلق وقدر.
الخبير المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور، وهذا كله من أدلة التوحيد.
(19)
قل لهم -لما بينا لهم الهدى، وأوضحنا لهم المسالك-:
أي شيء أكبر شهادة على هذا الأصل العظيم.
قل الله أكبر شهادة، فهو
شهيد بيني وبينكم فلا أعظم منه شهادة، ولا أكبر، وهو يشهد لي بإقراره وفعله، فيقرني على ما قلت لكم، كما قال تعالى
ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فالله حكيم قدير فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه زاعما أن الله أرسله ولم يرسله وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره وأن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم ونساءهم وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وينصره ويخذل من خالفه وعاداه فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة؟.
وقوله:
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أي: وأوحى الله إلي هذا القرآن الكريم لمنفعتكم
[ ص: 466 ] ومصلحتكم لأنذركم به من العقاب الأليم والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب والترهيب وببيان الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة التي من قام بها فقد قبل النذارة فهذا القرآن فيه النذارة لكم أيها المخاطبون وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية.
لما بين تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده قال: قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله والمكذبين لرسله
أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد أي: إن شهدوا فلا تشهد معهم.
فوازن بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده لا شريك له وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم وفسدت آراؤهم وأخلاقهم وأضحكوا على أنفسهم العقلاء.
بل خالفت شهادتهم فطرهم وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى مع أنه لا يقوم على ما خالفوه أدنى شبهة فضلا عن الحجج واختر لنفسك أي الشهادتين إن كنت تعقل ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه الذي أمرنا الله بالاقتداء به فقال:
قل إنما هو إله واحد أي
منفرد لا يستحق العبودية والإلهية سواه كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير .
وإنني بريء مما تشركون به من الأوثان والأنداد وكل ما أشرك به مع الله فهذا حقيقة التوحيد إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه.
(20) لما بين شهادته وشهادة رسوله على التوحيد وشهادة المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى
يعرفونه أي: يعرفون صحة التوحيد
كما يعرفون أبناءهم أي: لا شك عندهم فيه بوجهكما أنهم لا يشتبهون بأولادهم خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم.
ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول
محمد صلى الله عليه وسلم وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها لما عندهم من البشارات به ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره والمعنيان متلازمان.
قوله:
الذين خسروا أنفسهم أي: فوتوها ما خلقت له من الإيمان والتوحيد وحرموها الفضل من الملك المجيد
فهم لا يؤمنون فإذا لم يوجد الإيمان منهم فلا تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم.
[ ص: 467 ]