ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا [ ص: 570 ] به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس [ ص: 571 ] برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله [ ص: 572 ] إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
(103) أي: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل
موسى الكليم، الإمام العظيم، والرسول الكريم، إلى قوم عتاة جبابرة، وهم
فرعون وملؤه، من أشرافهم وكبرائهم،
[ ص: 573 ] فأراهم من آيات الله العظيمة ما لم يشاهد له نظير
فظلموا بها بأن لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له فهو ظالم، بل استكبروا عنها.
فانظر كيف كان عاقبة المفسدين كيف أهلكهم الله، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود.
(104) وهذا مجمل فصله بقوله:
وقال موسى حين جاء إلى
فرعون يدعوه إلى الإيمان،
يا فرعون إني رسول من رب العالمين أي: إني رسول من مرسل عظيم، وهو
رب العالمين، الشامل للعالم العلوي والسفلي، مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية ، التي من جملتها أنه لا يتركهم سدى، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وهو الذي لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، ويدعي أنه أرسله ولم يرسله.
(105) فإذا كان هذا شأنه، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته، فحقيق علي أن لا أكذب عليه، ولا أقول عليه إلا الحق. فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ عزيز مقتدر.
فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه، خصوصا وقد جاءهم ببينة من الله واضحة على صحة ما جاء به من الحق، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته، ولها مقصودان عظيمان. إيمانهم به، واتباعهم له، وإرسال بني إسرائيل الشعب الذي فضله الله على العالمين، أولاد الأنبياء، وسلسلة
يعقوب عليه السلام، الذي
موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم.
(106) فقال له
فرعون: إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين .
(107)
فألقى موسى عصاه في الأرض
فإذا هي ثعبان مبين أي: حية ظاهرة تسعى، وهم يشاهدونها.
(108)
ونزع يده من جيبه
فإذا هي بيضاء للناظرين من غير سوء، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به
موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين.
(109) ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فلهذا
قال الملأ من قوم فرعون حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة:
إن هذا لساحر عليم أي: ماهر في سحره.
[ ص: 574 ] (110) ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه
يريد موسى بفعله هذا
أن يخرجكم من أرضكم أي: يريد أن يجليكم من أوطانكم
فماذا تأمرون أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون
بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس.
(111-112) فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا
لفرعون: أرجه وأخاه أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء به
موسى، فقالوا: يا
موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى .
(113) وقال هنا:
وجاء السحرة فرعون طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ
قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ؟
(114) فقال
فرعون: نعم لكم أجر
وإنكم لمن المقربين فوعدهم الأجر والتقريب، وعلو المنزلة عنده، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة
موسى.
(115) فلما حضروا مع
موسى بحضرة الخلق العظيم
قالوا على وجه التألي وعدم المبالاة بما جاء به
موسى: يا موسى إما أن تلقي ما معك
وإما أن نكون نحن الملقين .
(116) فقال
موسى: ألقوا لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع
موسى. فلما ألقوا حبالهم وعصيهم، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى، فـ
سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم لم يوجد له نظير من السحر.
(117)
وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فألقاها
فإذا هي حية تسعى، فتلقفت جميع ما يأفكون أي: يكذبون به ويموهون.
(118)
فوقع الحق أي: تبين وظهر، واستعلن في ذلك المجمع،
وبطل ما كانوا يعملون .
[ ص: 575 ] (119)
فغلبوا هنالك أي: في ذلك المقام
وانقلبوا صاغرين أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
(120-122) وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته، ما لا يعرفه غيرهم، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات الله لا يدان لأحد بها. فألقي
السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون أي: وصدقنا بما بعث به
موسى من الآيات البينات.
(123) فقال لهم
فرعون متهددا على الإيمان:
آمنتم به قبل أن آذن لكم كان الخبيث حاكما مستبدا على الأبدان والأقوال، قد تقرر عنده وعندهم أن قوله هو المطاع، وأمره نافذ فيهم، ولا خروج لأحد عن قوله وحكمه، وبهذه الحالة تنحط الأمم وتضعف عقولها ونفوذها، وتعجز عن المدافعة عن حقوقها، ولهذا قال الله عنه:
فاستخف قومه فأطاعوه وقال هنا:
آمنتم به قبل أن آذن لكم أي: فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ علي.
ثم موه على قومه وقال:
إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها أي: إن
موسى كبيركم الذي علمكم السحر، فتواطأتم أنتم وهو على أن تنغلبوا له، فيظهر فتتبعوه، ثم يتبعكم الناس أو جمهورهم فتخرجوا منها أهلها.
وهذا كذب يعلم هو ومن سبر الأحوال، أن
موسى عليه الصلاة والسلام لم يجتمع بأحد منهم، وأنهم جمعوا على نظر
فرعون ورسله، وأن ما جاء به
موسى آية إلهية، وأن السحرة قد بذلوا مجهودهم في مغالبة
موسى، حتى عجزوا، وتبين لهم الحق، فاتبعوه.
ثم توعدهم
فرعون بقوله: فلسوف
تعلمون ما أحل بكم من العقوبة.
(124)
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف زعم الخبيث أنهم مفسدون في الأرض، وسيصنع بهم ما يصنع بالمفسدين، من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أي: اليد اليمنى والرجل اليسرى.
ثم لأصلبنكم في جذوع النخل، لتختزوا بزعمه
أجمعين أي: لا أفعل هذا الفعل بأحد دون أحد، بل كلكم سيذوق هذا العذاب.
(125) فقال السحرة، الذين آمنوا
لفرعون حين تهددهم:
إنا إلى ربنا منقلبون أي: فلا نبالي بعقوبتك، فالله خير وأبقى، فاقض ما أنت قاض.
(126)
وما تنقم منا أي: وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا؟
[ ص: 576 ] فليس لنا ذنب
إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا فإن كان هذا ذنبا يعاب عليه، ويستحق صاحبه العقوبة، فهو ذنبنا.
ثم دعوا الله أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا:
ربنا أفرغ أي: أفض
علينا صبرا أي: عظيما، كما يدل عليه التنكير، لأن هذه محنة عظيمة، تؤدي إلى ذهاب النفس، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير، ليثبت الفؤاد، ويطمئن المؤمن على إيمانه، ويزول عنه الانزعاج الكثير.
وتوفنا مسلمين أي: منقادين لأمرك، متبعين لرسولك، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه، وأن الله تعالى ثبتهم على الإيمان.
(127) هذا
وفرعون وملؤه وعامتهم المتبعون للملأ قد استكبروا عن آيات الله، وجحدوا بها ظلما وعلوا، وقالوا
لفرعون مهيجين له على الإيقاع
بموسى، وزاعمين أن ما جاء باطل وفساد:
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض بالدعوة إلى الله، وإلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، التي هي الصلاح في الأرض، وما هم عليه هو الفساد، ولكن الظالمين لا يبالون بما يقولون.
ويذرك وآلهتك أي: يدعك أنت وآلهتك، وينهى عنك، ويصد الناس عن اتباعك.
فـ
قال فرعون مجيبا لهم، بأنه سيدع بني إسرائيل مع
موسى بحالة لا ينمون فيها، ويأمن
فرعون وقومه - بزعمه - من ضررهم:
سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم أي: نستبقيهن فلا نقتلهن، فإذا فعلنا ذلك أمنا من كثرتهم، وكنا مستخدمين لباقيهم، ومسخرين لهم على ما نشاء من الأعمال
وإنا فوقهم قاهرون لا خروج لهم عن حكمنا، ولا قدرة، وهذا نهاية الجبروت من
فرعون والعتو والقسوة.
(128) فقال
موسى لقومه موصيا لهم في هذه الحالة، - التي لا يقدرون معها على شيء، ولا مقاومة - بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية:
استعينوا بالله أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا بالله ، أنه سيتم أمركم
واصبروا أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم، منتظرين للفرج.
إن الأرض لله ليست لفرعون ولا لقومه حتى يتحكموا فيها
يورثها من يشاء من عباده أي: يداولها بين الناس على حسب مشيئته وحكمته، ولكن العاقبة للمتقين، فإنهم - وإن امتحنوا مدة ابتلاء من الله وحكمة، فإن النصر لهم،
والعاقبة الحميدة لهم على قومهم وهذه وظيفة العبد، أنه عند القدرة أن يفعل
[ ص: 577 ] من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير، ما يقدر عليه، وعند العجز، أن يصبر ويستعين الله، وينتظر الفرج.
(129)
قالوا لموسى متضجرين من طول ما مكثوا في عذاب
فرعون، وأذيته:
أوذينا من قبل أن تأتينا فإنهم يسوموننا سوء العذاب، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا
ومن بعد ما جئتنا كذلك فقال لهم
موسى مرجيا لهم بالفرج والخلاص من شرهم:
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض أي: يمكنكم فيها، ويجعل لكم التدبير فيها
فينظر كيف تعملون هل تشكرون أم تكفرون؟. وهذا وعد أنجزه الله لما جاء الوقت الذي أراده الله.
(130) قال الله تعالى في بيان ما عامل به آل
فرعون في هذه المدة الأخيرة، أنها على عادته وسنته في الأمم، أن يأخذهم بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون. الآيات:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي: بالدهور والجدب،
ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون أي: يتعظون أن ما حل بهم وأصابهم معاتبة من الله لهم، لعلهم يرجعون عن كفرهم، فلم ينجع فيهم ولا أفاد، بل استمروا على الظلم والفساد.
(131)
فإذا جاءتهم الحسنة أي: الخصب وإدرار الرزق
قالوا لنا هذه أي: نحن مستحقون لها، فلم يشكروا الله عليها
وإن تصبهم سيئة أي: قحط وجدب
يطيروا بموسى ومن معه أي: يقولوا: إنما جاءنا بسبب مجيء
موسى، واتباع بني إسرائيل له.
قال الله تعالى:
ألا إنما طائرهم عند الله أي: بقضائه وقدرته، ليس كما قالوا، بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك، بل أكثرهم لا يعلمون أي: فلذلك قالوا ما قالوا.
(132)
وقالوا مبينين
لموسى أنهم لا يزالون، ولا يزولون عن باطلهم:
مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي: قد تقرر عندنا أنك ساحر، فمهما جئت بآية، جزمنا أنها سحر، فلا نؤمن لك ولا نصدق، وهذا غاية ما يكون من العناد، أن يبلغ بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالات، سواء نزلت عليهم الآيات أم لم تنزل.
(133)
فأرسلنا عليهم الطوفان أي: الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم
[ ص: 578 ] وزروعهم، وأضرهم ضررا كثيرا
والجراد فأكل ثمارهم وزروعهم، ونباتهم
والقمل قيل: إنه الدباء، أي: صغار الجراد، والظاهر أنه القمل المعروف
والضفادع فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية شديدة
والدم إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين، أن ماءهم الذي يشربون انقلب دما، فكانوا لا يشربون إلا دما، ولا يطبخون إلا بدم.
آيات مفصلات أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين، وعلى أن ما جاء به
موسى، حق وصدق
فاستكبروا لما رأوا الآيات
وكانوا في سابق أمرهم
قوما مجرمين فلذلك عاقبهم الله تعالى، بأن أبقاهم على الغي والضلال.
(134)
ولما وقع عليهم الرجز أي: العذاب، يحتمل أن المراد به: الطاعون، كما قاله كثير من المفسرين، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، فإنها رجز وعذاب، وأنهم كلما أصابهم واحد منها
قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك أي: تشفعوا
بموسى بما عهد الله عنده من الوحي والشرع،
لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل وهم في ذلك كذبة، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره.
(135)
فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه أي: إلى مدة قدر الله بقاءهم إليها، وليس كشفا مؤبدا، وإنما هو مؤقت،
إذا هم ينكثون العهد الذي عاهدوا عليه
موسى، ووعدوه بالإيمان به، وإرسال بني إسرائيل، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، بل استمروا على كفرهم يعمهون، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين.
(136)
فانتقمنا منهم أي: حين جاء الوقت المؤقت لهلاكهم، أمر الله
موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلا وأخبره أن
فرعون سيتبعهم هو وجنوده
فأرسل فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الناس ليتبعوا بني إسرائيل، وقالوا لهم:
إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين .
وقال هنا:
فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي: بسبب تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عما دلت عليه من الحق.
(137)
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في الأرض، أي: بني إسرائيل الذين كانوا خدمة لآل
فرعون، يسومونهم سوء العذاب أورثهم الله
مشارق الأرض ومغاربها والمراد بالأرض هاهنا، أرض مصر، التي كانوا فيها مستضعفين، أذلين، أي: ملكهم الله جميعا، ومكنهم فيها التي باركنا فيها
وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا حين قال لهم
موسى: استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من الأبنية الهائلة، والمساكن المزخرفة
وما كانوا يعرشون ،
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون .
(138)
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر بعد ما أنجاهم الله من عدوهم
فرعون وقومه، وأهلكهم الله، وبنو إسرائيل ينظرون.
فأتوا أي: مروا
على قوم يعكفون على أصنام لهم أي: يقيمون عندها ويتبركون بها، ويعبدونها.
فـ
قالوا من جهلهم وسفههم لنبيهم موسى بعدما أراهم الله من الآيات ما أراهم
يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة أي: اشرع لنا أن نتخذ أصناما آلهة كما اتخذها هؤلاء.
فـ
قال لهم
موسى: إنكم قوم تجهلون وأي جهل أعظم من جهل من جهل ربه وخالقه وأراد أن يسوي به غيره، ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؟
(139) ولهذا قال لهم موسى
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون لأن دعاءهم إياها باطل، وهي باطلة بنفسها، فالعمل باطل وغايته باطلة.
(140)
قال أغير الله أبغيكم إلها أي: أطلب لكم إلها غير الله المألوه، الكامل في ذاته، وصفاته وأفعاله.
وهو فضلكم على العالمين فيقتضي أن تقابلوا فضله، وتفضيله بالشكر، وذلك بإفراد الله وحده بالعبادة، والكفر بما يدعى من دونه.
[ ص: 580 ] (141) ثم ذكرهم بما امتن الله به عليهم فقال:
وإذ أنجيناكم من آل فرعون أي: من
فرعون وآله
يسومونكم سوء العذاب أي: يوجهون إليكم من العذاب أسوأه، وهو أنهم كانوا
يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم أي: النجاة من عذابهم
بلاء من ربكم عظيم أي: نعمة جليلة، ومنحة جزيلة، أو وفي ذلك العذاب الصادر منهم لكم بلاء من ربكم عليكم عظيم.
(142) فلما ذكرهم
موسى ووعظهم انتهوا عن ذلك، ولما أتم الله نعمته عليهم بالنجاة من عدوهم، وتمكينهم في الأرض، أراد تبارك وتعالى أن يتم نعمته عليهم، بإنزال الكتاب الذي فيه الأحكام الشرعية، والعقائد المرضية، فواعد
موسى ثلاثين ليلة، وأتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة، ليستعد
موسى، ويتهيأ لوعد الله، ويكون لنزولها موقع كبير لديهم، وتشوق إلى إنزالها.
ولما ذهب
موسى إلى ميقات ربه قال
لهارون موصيا له على بني إسرائيل من حرصه عليهم وشفقته:
اخلفني في قومي أي: كن خليفتي فيهم، واعمل فيهم بما كنت أعمل،
وأصلح أي: اتبع طريق الصلاح
ولا تتبع سبيل المفسدين وهم الذين يعملون بالمعاصي.
(143)
ولما جاء موسى لميقاتنا الذي وقتناه له لإنزال الكتاب
وكلمه ربه بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه، تشوق إلى رؤية الله، ونزعت نفسه لذلك، حبا لربه ومودة لرؤيته.
فـ
قال رب أرني أنظر إليك قال الله
لن تراني أي: لن تقدر الآن على رؤيتي، فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها، ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وأنه ينشئهم نشأة كاملة، يقدرون معها على رؤية الله تعالى، ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل، فقال - مقنعا
لموسى في عدم إجابته للرؤية -
ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه إذا تجلى الله له
فسوف تراني .
فلما تجلى ربه للجبل الأصم الغليظ
جعله دكا أي: انهال مثل الرمل، انزعاجا من رؤية الله وعدم ثبوته لها
وخر موسى حين رأى ما رأى
صعقا فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية الله،
فموسى أولى أن لا يثبت لذلك، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال، الذي لم يوافق موضعا و لذلك
قال سبحانك أي: تنزيها لك، وتعظيما عما لا يليق بجلالك
تبت إليك من جميع الذنوب، وسوء الأدب معك
وأنا أول المؤمنين أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه، بما كمل الله له مما كان يجهله قبل ذلك.
(144) فلما منعه الله من رؤيته - بعدما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرا كثيرا فقال:
يا موسى إني اصطفيتك على الناس أي: اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك بفضائل عظيمة، ومناقب جليلة،
برسالاتي التي لا أجعلها، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق.
وبكلامي إياك من غير واسطة، وهذه فضيلة اختص بها
موسى الكليم، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين،
فخذ ما آتيتك من النعم، وخذ ما آتيتك من الأمر والنهي بانشراح صدر، وتلقه بالقبول والانقياد،
وكن من الشاكرين لله على ما خصك وفضلك.
(145)
وكتبنا له في الألواح من كل شيء يحتاج إليه العباد
موعظة ترغب النفوس في أفعال الخير، وترهبهم من أفعال الشر،
وتفصيلا لكل شيء من الأحكام الشرعية، والعقائد والأخلاق والآداب
فخذها بقوة أي: بجد واجتهاد على إقامتها،
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وهي الأوامر الواجبة والمستحبة، فإنها أحسنها، وفي هذا دليل على أن أوامر الله - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة.
سأريكم دار الفاسقين بعد ما أهلكهم الله، وأبقى ديارهم عبرة بعدهم، يعتبر بها المؤمنون الموفقون المتواضعون.
(146) وأما غيرهم، فقال عنهم:
سأصرف عن آياتي أي: عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية، والفهم لآيات الكتاب
الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق أي: يتكبرون على عباد الله وعلى الحق، وعلى من جاء به، فمن كان بهذه الصفة، حرمه الله خيرا كثيرا وخذله، ولم يفقه من آيات الله ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح.
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها لإعراضهم واعتراضهم، ومحادتهم لله ورسوله،
وإن يروا سبيل الرشد أي: الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته
لا يتخذوه أي: لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه
وإن يروا سبيل الغي أي: الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء
يتخذوه سبيلا والسبب في انحرافهم هذا الانحراف
ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين فردهم لآيات الله، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشد ما أوجب.
[ ص: 582 ] (147)
والذين كذبوا بآياتنا العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا،
ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم لأنها على غير أساس، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات الله، والتصديق بجزائه
هل يجزون في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم
إلا ما كانوا يعملون فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر، لا يرجو فيها ثوابا، وليس لها غاية تنتهي إليه، فلذلك اضمحلت وبطلت.
(148)
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا صاغه
السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار
له خوار وصوت، فعبدوه واتخذوه إلها.
وقال
هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى، وذهب يطلبه، وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم، كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات، بعجل من أنقص المخلوقات؟"
ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية، ما يوجب أن يكون إلها
ألم يروا أنه لا يكلمهم أي: وعدم الكلام نقص عظيم، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي لا يتكلم
ولا يهديهم سبيلا أي: لا يدلهم طريقا دينيا، ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية، لأن من المتقرر في العقول والفطر، أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر من أبطل الباطل، وأسمج السفه، ولهذا قال:
اتخذوه وكانوا ظالمين حيث وضعوا العبادة في غير موضعها، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وفيها دليل على أن من أنكر كلام الله، فقد أنكر خصائص إلهية الله تعالى، لأن الله ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية.
(149)
ولما رجع
موسى إلى قومه، فوجدهم على هذه الحال، وأخبرهم بضلالهم ندموا و
سقط في أيديهم أي: من الهم والندم على فعلهم،
ورأوا أنهم قد ضلوا فتنصلوا، إلى الله وتضرعوا و
قالوا لئن لم يرحمنا ربنا فيدلنا عليه، ويرزقنا عبادته، ويوفقنا لصالح الأعمال،
ويغفر لنا ما صدر منا من عبادة العجل
لنكونن من الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة.
(150)
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا أي: ممتلئا غضبا وغيظا عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته،
قال بئسما خلفتموني من بعدي أي: بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.
أعجلتم أمر ربكم حيث وعدكم بإنزال الكتاب. فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة
[ ص: 583 ] وألقى الألواح أي: رماها من الغضب
وأخذ برأس أخيه هارون ولحيته
يجره إليه وقال له:
ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري لك بقولي:
اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين فقال
يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي و
قال هنا
ابن أم هذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه:
إن القوم استضعفوني أي: احتقروني حين قلت لهم:
يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري وكادوا يقتلونني أي: فلا تظن بي تقصيرا
فلا تشمت بي الأعداء بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا علي عثرة، أو يطلعوا لي على زلة
ولا تجعلني مع القوم الظالمين فتعاملني معاملتهم.
(151) فندم
موسى عليه السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته، مما ظنه فيه من التقصير.
و
قال رب اغفر لي ولأخي هارون
وأدخلنا في رحمتك أي: في وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب، فإنها حصن حصين، من جميع الشرور، وثم كل خير وسرور.
وأنت أرحم الراحمين أي: أرحم بنا من كل راحم، أرحم بنا من آبائنا، وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا.
(152) قال الله تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه:
إن الذين اتخذوا العجل أي: إلها
سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره.
وكذلك نجزي المفترين فكل مفتر على الله، كاذب على شرعه، متقول عليه ما لم يقل، فإن له نصيبا من الغضب من الله، والذل في الحياة الدنيا.
(153) وقد نالهم غضب الله، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وأنه لا يرضى الله عنهم إلا بذلك، فقتل بعضهم بعضا، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى ثم تاب الله عليهم بعد ذلك.
ولهذا ذكر حكما عاما يدخلون فيه هم وغيرهم، فقال:
والذين عملوا السيئات من شرك وكبائر، وصغائر
ثم تابوا من بعدها بأن ندموا على ما مضى، وأقلعوا عنها، وعزموا على أن لا يعودوا
وآمنوا بالله وبما أوجب الله من الإيمان به، ولا يتم الإيمان إلا بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح المترتبة
[ ص: 584 ] على الإيمان
إن ربك من بعدها أي: بعد هذه الحالة، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى الطاعات،
لغفور يغفر السيئات ويمحوها، ولو كانت قراب الأرض
رحيم بقبول التوبة، والتوفيق لأفعال الخير وقبولها.
(154)
ولما سكت عن موسى الغضب أي: سكن غضبه، وتراجعت نفسه، وعرف ما هو فيه، اشتغل بأهم الأشياء عنده، فـ
أخذ الألواح التي ألقاها، وهي ألواح عظيمة المقدار، جليلة
وفي نسختها أي: مشتملة ومتضمنة
هدى ورحمة أي: فيها الهدى من الضلالة، وبيان الحق من الباطل، وأعمال الخير وأعمال الشر، والهدى لأحسن الأعمال، والأخلاق، والآداب، ورحمة وسعادة لمن عمل بها، وعلم أحكامها ومعانيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى الله ورحمته، وإنما يقبل ذلك وينقاد له، ويتلقاه بالقبول الذين هم
لربهم يرهبون أي: يخافون منه ويخشونه، وأما من لم يخف الله ولا المقام بين يديه، فإنه لا يزداد بها إلا عتوا ونفورا وتقوم عليه حجة الله فيها.
(155) ( و ) لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم " اختار موسى " منهم
سبعين رجلا من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم الله ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا
موسى، أرنا الله جهرة فتجرأوا على الله جراءة كبيرة، وأساءوا الأدب معه، فـ
أخذتهم الرجفة فصعقوا وهلكوا.
فلم يزل
موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى الله ويتبتل ويقول
رب لو شئت أهلكتهم من قبل أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم، فصاروا هم الظالمين
أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أي: ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى الله واعتذر بأن المتجرئين على الله ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال:
إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين أي: أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن
موسى عليه الصلاة والسلام، قال: المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق، فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا.
فأجاب الله سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم، وغفر لهم ذنوبهم.
[ ص: 585 ] (156) وقال
موسى في تمام دعائه
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح.
وفي الآخرة :حسنة وهي ما أعد الله لأوليائه الصالحين من الثواب.
إنا هدنا إليك أي: رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا.
قال الله تعالى
عذابي أصيب به من أشاء ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه،
ورحمتي وسعت كل شيء من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها:
فسأكتبها للذين يتقون المعاصي، صغارها وكبارها.
ويؤتون الزكاة الواجبة مستحقيها
والذين هم بآياتنا يؤمنون .
(157) ومن تمام الإيمان بآيات الله معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي احتراز عن سائر الأنبياء، فإن المقصود بهذا
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم.
والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي
محمد صلى الله عليه وسلم شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها الله لهم، ووصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب.
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه، وينهى عنه . وأنه
يأمرهم بالمعروف وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه.
وينهاهم عن المنكر وهو: كل ما عرف قبحه في العقول والفطر.
فيأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر، والنصيحة، وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك بالله، وقتل النفوس بغير حق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو ذلك.
فأعظم دليل يدل على أنه رسول الله، ما دعا إليه وأمر به، ونهى عنه، وأحله وحرمه، فإنه " يحل لهم الطيبات " من المطاعم والمشارب، والمناكح.
ويحرم عليهم الخبائث من المطاعم والمشارب والمناكح، والأقوال والأفعال.
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم أي: ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقالا.
فالذين آمنوا به وعزروه أي: عظموه وبجلوه
ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات، ويقتدى به إذا تعارضت المقالات،
أولئك هم المفلحون الظافرون بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح .
وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أنزل معه، فأولئك هم الخاسرون.
(158) ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على العموم فقال:
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا أي: عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم.
الذي له ملك السماوات والأرض يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها: أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى الله وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار كرامته.
لا إله إلا هو أي:
لا معبود بحق، إلا الله وحده لا شريك له ، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله،
يحيي ويميت أي: من جملة تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها صدق الرسول
محمدا صلى الله عليه وسلم قطعا.
فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح.
الذي يؤمن بالله وكلماته أي: آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله،
واتبعوه لعلكم تهتدون في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا.
(159)
ومن قوم موسى أمة أي: جماعة
يهدون بالحق وبه يعدلون أي: يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم، ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم، بقضاياهم، كما قال تعالى:
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون .
وفي هذا فضيلة لأمة
موسى عليه الصلاة والسلام، وأن الله تعالى جعل منهم هداة يهدون بأمره.
وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.
(160)
وقطعناهم أي: قسمناهم
اثنتي عشرة أسباطا أمما أي: اثنتي
[ ص: 587 ] عشرة قبيلة متعارفة متوالفة، كل بني رجل من أولاد
يعقوب قبيلة.
وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أي: طلبوا منه أن يدعو الله تعالى، أن يسقيهم ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم، وذلك لأنهم - والله أعلم - في محل قليل الماء.
فأوحى الله لموسى إجابة لطلبتهم
أن اضرب بعصاك الحجر يحتمل أنه حجر معين، ويحتمل أنه اسم جنس، يشمل أي حجر كان، فضربه
فانبجست أي: انفجرت من ذلك الحجر
اثنتا عشرة عينا جارية سارحة.
قد علم كل أناس مشربهم أي: قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الاثنتي عشرة، وجعل لكل منهم عينا، فعلموها، واطمأنوا، واستراحوا من التعب والمزاحمة، والمخاصمة، وهذا من تمام نعمة الله عليهم.
وظللنا عليهم الغمام فكان يسترهم من حر الشمس
وأنزلنا عليهم المن وهو الحلوى،
والسلوى وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها، فجمع الله لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم، على وجه الراحة والطمأنينة.
وقيل لهم:
كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا حين لم يشكروا الله، ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم.
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون حيث فوتوها كل خير، وعرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.
(161)
وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية أي: ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا، وهي ( إيلياء
وكلوا منها حيث شئتم أي: قرية كانت كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم الله أن يأكلوا منها حيث شاءوا.
وقولوا حين تدخلون الباب:
حطة أي: احطط عنا خطايانا، واعف عنا.
وادخلوا الباب سجدا أي: خاضعين لربكم مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال:
نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين من خير الدنيا والآخرة.
(162) فلم يمتثلوا هذا الأمر الإلهي، بل
فبدل الذين ظلموا منهم أي: عصوا الله واستهانوا بأمره
قولا غير الذي قيل لهم فقالوا بدل طلب المغفرة، وقولهم حطة ( حبة في شعيرة ) ، وإذا بدلوا القول - مع يسره وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على أستاههم.
فأرسلنا عليهم حين خالفوا أمر الله وعصوه
رجزا من السماء أي: عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات السماوية.
وما ظلمهم الله بعقابه وإنما
[ ص: 588 ] كان ذلك
بما كانوا يظلمون .
(163)
واسألهم أي: اسأل بني إسرائيل
عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب الله إياهم.
إذ يعدون في السبت وكان الله تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم الله وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم
يوم سبتهم شرعا أي: كثيرة طافية على وجه البحر.
ويوم لا يسبتون أي: إذا ذهب يوم السبت
لا تأتيهم أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا
كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم الله، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم الله، ولما عرضهم للبلاء والشر.
(164) فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق:
معظمهم اعتدوا وتجرأوا، وأعلنوا بذلك.
وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم.
وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم:
لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا كأنهم يقولون: لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم الله، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم الله، إما بهلاك أو عذاب شديد.
فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم
معذرة إلى ربكم أي: لنعذر فيهم.
ولعلهم يتقون أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
(165)
فلما نسوا ما ذكروا به أي: تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم.
أنجينا الذين ينهون عن السوء وهكذا سنة الله في عباده، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وأخذنا الذين ظلموا وهم الذين اعتدوا في السبت
بعذاب بئيس أي: شديد
بما كانوا يفسقون
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين:
لم تعظون قوما الله مهلكهم فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن الله خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر أنهم ظالمون.
فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم:
لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم، وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة.
(166)
فلما عتوا عن ما نهوا عنه أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا،
قلنا لهم قولا قدريا:
كونوا قردة خاسئين فانقلبوا بإذن الله قردة، وأبعدهم الله من رحمته.
(167) ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال:
وإذ تأذن ربك أي: أعلم إعلاما صريحا:
ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب أي: يهينهم، ويذلهم.
إن ربك لسريع العقاب لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا.
وإنه لغفور رحيم لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات، وقد فعل الله بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم علم.
(168)
وقطعناهم في الأرض أمما 168 - 170 ) أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض بعد ما كانوا مجتمعين،
منهم الصالحون القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده،
ومنهم دون ذلك أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما الظالمون لأنفسهم،
وبلوناهم على عادتنا وسنتنا،
بالحسنات والسيئات أي: بالعسر واليسر.
لعلهم يرجعون عما هم عليه مقيمون من الردى، يراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد.
(169) حتى خلف
من بعدهم خلف . زاد شرهم
ورثوا بعدهم
[ ص: 590 ] الكتاب وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال، ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة.
يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة:
سيغفر لنا وهذا قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة.
فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر، ورشوة أخرى - يأخذوه.
فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال الله تعالى في الإنكار عليهم، وبيان جراءتهم:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم.
( و ) الحال أنهم قد " درسوا ما فيه " فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أتوا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم، وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال:
والدار الآخرة خير للذين يتقون ما حرم الله عليهم، من المآكل التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل الله، وغير ذلك من أنواع المحرمات.
أفلا تعقلون أي: أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم له على غيره. فخاصية العقل النظر للعواقب.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟
(170) وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم الله بقوله
والذين يمسكون بالكتاب أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم.
ويعملون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات.
ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى:
إنا لا نضيع أجر المصلحين في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم.
وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام
[ ص: 591 ] بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.
(171) ثم قال تعالى:
وإذ نتقنا الجبل فوقهم حين امتنعوا من قبول ما في التوراة.
فألزمهم الله العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل، فصار فوقهم
كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم وقيل لهم:
خذوا ما آتيناكم بقوة أي: بجد واجتهاد.
واذكروا ما فيه دراسة ومباحثة، واتصافا بالعمل به
لعلكم تتقون إذا فعلتم ذلك.