وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود
(84) أي: ( و ) أرسلنا " إلى مدين " القبيلة المعروفة، الذين يسكنون
مدين في أدنى
فلسطين، أخاهم في النسب
شعيبا لأنهم يعرفونه، ويتمكنون
[ ص: 762 ] من الأخذ عنه.
فقال لهم
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أي: أخلصوا له العبادة، فإنهم كانوا يشركون به، وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكيال والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال:
ولا تنقصوا المكيال والميزان بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط.
إني أراكم بخير أي: بنعمة كثيرة، وصحة، وكثرة أموال وبنين، فاشكروا الله على ما أعطاكم، ولا تكفروا بنعمة الله فيزيلها عنكم.
وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط أي: عذابا يحيط بكم، ولا يبقي منكم باقية.
(85)
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط أي: بالعدل الذي ترضون أن تعطوه،
ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي: لا تنقصوا من أشياء الناس، فتسرقوها بأخذها، بنقص المكيال والميزان.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين فإن الاستمرار على المعاصي، يفسد الأديان، والعقائد، والدين، والدنيا، ويهلك الحرث والنسل.
(86)
بقيت الله خير لكم أي: يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير، وما هو لكم، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية، وهو ضار لكم جدا.
إن كنتم مؤمنين فاعملوا بمقتضى الإيمان،
وما أنا عليكم بحفيظ أي: لست بحافظ لأعمالكم، ووكيل عليها، وإنما الذي يحفظها الله تعالى، وأما أنا، فأبلغكم ما أرسلت به.
(87)
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أي: قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم، والاستبعاد لإجابتهم له.
ومعنى كلامهم: أنه لا موجب لنهيك لنا، إلا أنك تصلي لله، وتتعبد له، أفإن كنت كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب؟!
وكذلك لا يوجب قولك لنا:
أن نفعل في أموالنا ما قلت لنا، من وفاء الكيل، والميزان، وأداء الحقوق الواجبة فيها، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا، لأنها أموالنا، فليس لك فيها تصرف.
ولهذا قالوا في تهكمهم:
إنك لأنت الحليم الرشيد أي: أئنك أنت الذي الحلم والوقار لك خلق، والرشد لك سجية، فلا يصدر عنك إلا رشد، ولا تأمر إلا برشد، ولا تنهى إلا عن غي، أي: ليس الأمر كذلك.
وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين: بالسفه والغواية، أي: أن المعنى: كيف تكون أنت الحليم الرشيد، وآباؤنا هم السفهاء
[ ص: 763 ] الغاوون؟!!
وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم، وأن الأمر بعكسه، ليس كما ظنوه، بل الأمر كما قالوه. إن صلاته تأمره أن ينهاهم، عما كان يعبد آباؤهم الضالون، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأي فحشاء ومنكر، أكبر من عبادة غير الله، ومن منع حقوق عباد الله، أو سرقتها بالمكاييل والموازين، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد.
(88)
قال لهم شعيب:
يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أي: يقين وطمأنينة، في صحة ما جئت به،
ورزقني منه رزقا حسنا أي: أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني.
( و ) أنا لا
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فلست أريد أن أنهاكم عن البخس، في المكيال، والميزان، وأفعله أنا، وحتى تتطرق إلي التهمة في ذلك بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مبتدر لتركه.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت أي: ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي، شيء بحسب استطاعتي.
ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس، دفع هذا بقوله:
وما توفيقي إلا بالله أي: وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى، لا بحولي ولا بقوتي.
عليه توكلت أي: اعتمدت في أموري، ووثقت في كفايته،
وإليه أنيب في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات، وفي هذا التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات.
وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه، والإنابة إليه، كما قال تعالى:
فاعبده وتوكل عليه وقال:
إياك نعبد وإياك نستعين .
(89)
ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أي: لا تحملنكم مخالفتي ومشاقتي
أن يصيبكم من العقوبات
مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد لا في الدار ولا في الزمان.
(90)
واستغفروا ربكم عما اقترفتم من الذنوب
ثم توبوا إليه فيما يستقبل من أعماركم، بالتوبة النصوح، والإنابة إليه بطاعته، وترك مخالفته.
إن ربي رحيم ودود لمن تاب وأناب، يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه.
ومعنى الودود، من أسمائه تعالى، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، فهو فعول بمعنى فاعل ومعنى مفعول.
[ ص: 764 ] (91)
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول أي: تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم، فقالوا:
ما نفقه كثيرا مما تقول وذلك لبغضهم لما يقول، ونفرتهم عنه.
وإنا لنراك فينا ضعيفا أي: في نفسك، لست من الكبار والرؤساء بل من المستضعفين.
ولولا رهطك أي: جماعتك وقبيلتك
لرجمناك وما أنت علينا بعزيز أي: ليس لك قدر في صدورنا، ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك، بتركنا إياك.
(92)
قال لهم مترققا لهم:
يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله أي: كيف تراعوني لأجل رهطي، ولا تراعوني لله، فصار رهطي أعز عليكم من الله.
واتخذتموه وراءكم ظهريا أي: نبذتم أمر الله، وراء ظهوركم، ولم تبالوا به، ولا خفتم منه.
إن ربي بما تعملون محيط لا يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء.
(93) ( و ) لما أعيوه وعجز عنهم قال: " يا قوم اعملوا على مكانتكم " أي: على حالتكم ودينكم.
إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم، وقد علموا ذلك حين وقع عليهم العذاب.
وارتقبوا ما يحل بي
إني معكم رقيب ما يحل بكم.
(94)
ولما جاء أمرنا بإهلاك قوم
شعيب نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين لا تسمع لهم صوتا، ولا ترى منهم حركة.
(95)
كأن لم يغنوا فيها أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب.
ألا بعدا لمدين إذ أهلكها الله وأخزاها
كما بعدت ثمود أي: قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق والبعد والهلاك.
وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته لقومه، وفي قصته من الفوائد والعبر، شيء كثير.
منها: أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون بأصل الإسلام، فكذلك بشرائعه وفروعه، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد مرتبا على مجموع ذلك.
[ ص: 765 ] ومنها: أن نقص المكاييل والموازين، من كبائر الذنوب، وتخشى العقوبة العاجلة، على من تعاطى ذلك، وأن ذلك من سرقة أموال الناس، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين، موجبة للوعيد، فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، فمن بخس أموال الناس، يريد زيادة ماله، عوقب بنقيض ذلك، وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله:
إني أراكم بخير أي: فلا تتسببوا إلى زواله بفعلكم.
ومنها: أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة، وأن ذلك خير له لقوله:
بقيت الله خير لكم ففي ذلك، من البركة، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق، وضد البركة.
ومنها: أن ذلك، من لوازم الإيمان وآثاره، فإنه رتب العمل به، على وجود الإيمان، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل، فالإيمان ناقص أو معدوم.
ومنها: أن الصلاة، لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين، وأنها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها، وتقديمها على سائر الأعمال، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي ميزان للإيمان وشرائعه، فبإقامتها تكمل أحوال العبد، وبعدم إقامتها، تختل أحواله الدينية.
ومنها: أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه.
ومنها: أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به، وأول منته عما ينهى غيره عنه، كما قال شعيب عليه السلام:
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يقدر عليه منها
[ ص: 766 ] وبدفع المفاسد وتقليلها ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة
وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية
ومنها أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه
ومنها أن
العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين بل لا يزال مستعينا بربه متوكلا عليه سائلا له التوفيق وإذا حصل له شيء من التوفيق فلينسبه لموليه ومسديه ولا يعجب بنفسه لقوله
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
ومنها الترهيب بأخذات الأمم وما جرى عليهم وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر
كما أنه
ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى .
ومنها أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ولا عبرة بقول من يقول "إن التائب إذا تاب فحسبه أن يغفر له ويعود عليه العفو وأما عود الود والحب فإنه لا يعود "فإن الله قال
واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود
ومنها
أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عملة وخدما لهم.
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم.