وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ ص: 796 ] ؛ أي : لما تولى
يوسف عليه السلام خزائن الأرض ، دبرها أحسن تدبير ، فزرع في أرض
مصر جميعها في السنين المخصبة زروعا هائلة ، واتخذ لها المحلات الكبار ، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه ، وضبطه ضبطا تاما ، فلما دخلت السنون المجدبة ، وسرى الجدب حتى وصل إلى
فلسطين ، التي يقيم فيها
يعقوب وبنوه ، فأرسل
يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى
مصر .
(58 ) فجاء
إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون أي : لم يعرفوه .
(59
ولما جهزهم بجهازهم أي : كال لهم كما كان يكيل لغيرهم ، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير ، وكان قد سألهم عن حالهم ، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه ، وهو
بنيامين . فـقال لهم :
ائتوني بأخ لكم من أبيكم : ثم رغبهم في الإتيان به فقال :
ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين في الضيافة والإكرام .
[ ص: 797 ] ثم رهبهم بعدم الإتيان به ، فقال :
فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون : وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه ، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به .
(61 ) فقالوا :
سنراود عنه أباه : دل هذا على أن
يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه ، وكان يتسلى به بعد
يوسف ؛ فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم
وإنا لفاعلون لما أمرتنا به .
(62
وقال يوسف
لفتيانه الذين في خدمته :
اجعلوا بضاعتهم أي : الثمن الذي اشتروا به من الميرة .
في رحالهم لعلهم يعرفونها أي : بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم ،
لعلهم يرجعون لأجل التحرج من أخذها على ما قيل. والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا ، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها ، ولا يشعرون لما يأتي؛ فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن .
(63
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل أي : إن لم ترسل معنا أخانا ،
فأرسل معنا أخانا نكتل أي : ليكون ذلك سببا لكيلنا ، ثم التزموا له بحفظه ، فقالوا :
وإنا له لحافظون من أن يعرض له ما يكره .
(64
قال لهم
يعقوب عليه السلام :
هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل أي : تقدم منكم التزام أكثر من هذا في حفظ يوسف ، ومع هذا ؛ لم تفوا بما عقدتم من التأكيد ، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم ، وإنما أثق بالله تعالى .
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين أي : يعلم حالي وأرجو أن يرحمني ، فيحفظه ويرده علي ، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم .
(65 ) ثم إنهم " لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم " : هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد ، وأنه أراد أن يملكهم إياها . فقالوا لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم - :
يا أبانا ما نبغي أي : أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل ، حيث وفى لنا الكيل ، ورد علينا بضاعتنا على هذا الوجه الحسن ، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق ؟ !
هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا أي : إذا ذهبنا بأخينا ؛ صار سببا لكيله لنا ، فمرنا أهلنا ، وأتينا لهم بما هم مضطرون إليه من القوت ،
ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير : بإرساله معنا ؛ فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير ،
ذلك كيل يسير أي :
[ ص: 798 ] سهل لا ينالك ضرر ؛ لأن المدة لا تطول ، والمصلحة قد تبينت .
(66 ) فقال لهم
يعقوب :
لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله أي : عهدا ثقيلا وتحلفون بالله
لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أي : إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به ، ولا تقدرون دفعه ،
فلما آتوه موثقهم على ما قال وأراد
قال الله على ما نقول وكيل أي : تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته .
(67 ) ثم لما أرسله معهم ؛ وصاهم إذا هم قدموا مصر أن لا يدخلوا
من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة : وذلك أنه خاف عليهم العين ؛ لكثرتهم وبهاء منظرهم ؛ لكونهم أبناء رجل واحد ، وهذا سبب . ( و ) إلا فـ " ما أغني عنكم من الله " : شيئا فالمقدر لا بد أن يكون ،
إن الحكم إلا لله أي : القضاء قضاؤه ، والأمر أمره ، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع .
عليه توكلت أي : اعتمدت على الله ، لا على ما وصيتكم به من السبب ،
وعليه فليتوكل المتوكلون فإن
بالتوكل يحصل كل مطلوب ، ويندفع كل مرهوب .
(68
ولما ذهبوا و
دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان : ذلك الفعل
يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها : وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد ، فحصل له في ذلك نوع طمأنينة وقضاء لما في خاطره .
وليس هذا قصورا في علمه ؛ فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين ، ولهذا قال عنه :
وإنه لذو علم أي : لصاحب علم عظيم
لما علمناه أي : لتعليمنا إياه ، لا بحوله وقوته أدركه ، بل بفضل الله وتعليمه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون : عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك أهل العلم منهم ، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير .