تفسير سورة مريم
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا
(2) أي: هذا
ذكر رحمت ربك عبده زكريا سنقصه عليك، ونفصله تفصيلا يعرف به حالة نبيه
زكريا، وآثاره الصالحة، ومناقبه الجميلة؛ فإن في قصها عبرة للمعتبرين، وأسوة للمقتدين؛ ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه، وبأي سبب حصلت لهم مما يدعو إلى محبة الله تعالى، والإكثار من ذكره ومعرفته والسبب الموصل إليه، وذلك أن الله تعالى اجتبى واصطفى
زكريا عليه السلام لرسالته، وخصه بوحيه، فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين، ودعا العباد إلى ربه، وعلمهم ما علمه الله، ونصح لهم في حياته وبعد مماته، كإخوانه من المرسلين ومن اتبعهم. (3 - 4) فلما رأى من نفسه الضعف، وخاف أن يموت، ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم، شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن، وناداه نداء خفيا؛ ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلاصا، فقال:
رب إني وهن العظم مني ؛ أي: وهى وضعف، وإذا ضعف العظم - الذي هو عماد البدن - ضعف غيره.
واشتعل الرأس شيبا ؛ لأن الشيب دليل الضعف والكبر ورسول الموت ورائده ونذيره، فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى الله؛ لأنه يدل على التبري من الحول والقوة، وتعلق القلب بحول الله وقوته.
ولم أكن بدعائك رب شقيا ؛ أي: لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة، بل لم تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا، ولم تزل ألطافك تتوالى علي، وإحسانك واصلا
[ ص: 990 ] إلي، وهذا توسل إلى الله بإنعامه عليه، وإجابة دعواته السابقة، فسأل الذي أحسن سابقا أن يتمم إحسانه لاحقا.
(5)
وإني خفت الموالي من ورائي ؛ أي: وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي أن لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك، وظاهر هذا أنه لم ير فيهم أحدا فيه لياقة للإمامة في الدين، وهذا فيه شفقة
زكريا عليه السلام ونصحه، وأن طلبه للولد ليس كطلب غيره، قصده مجرد المصلحة الدنيوية، وإنما قصده مصلحة الدين، والخوف من ضياعه، ورأى غيره غير صالح لذلك، وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين، ومعدن الرسالة، ومظنة للخير، فدعا الله أن يرزقه ولدا، يقوم بالدين من بعده، واشتكى أن امرأته عاقر، أي ليست تلد أصلا، وأنه قد بلغ من الكبر عتيا؛ أي: عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد.
فهب لي من لدنك وليا . (6) وهذه الولاية ولاية الدين، وميراث النبوة والعلم والعمل، ولهذا قال:
يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ؛ أي: عبدا صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك. والحاصل أنه سأل الله ولدا ذكرا صالحا، يبقى بعد موته، ويكون وليا من بعده، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد، ومن رحمة الله بعبده أن يرزقه ولدا صالحا، جامعا لمكارم الأخلاق ومحامد الشيم، فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال: